غربة أنكيدو في أوروك

ثقافة 2022/07/26
...

 ناجح المعموري
الملحمة مفتوحة منذ الاستهلال على العنف وتمجيده بوضوح تام، وكأن الذي كتب، والممثل للخطاب الديني والسياسي في مدينة أوروك استعجل أمر الإعلان عن شخصية الملك جلجامش وما يتميز به من عناصر تجعل منه ملكاً مستبداً وطاغياً يفعل كل ما يريده بعنف وقسوة. ويذهب أبعد من ذلك نحو القتل والعنف والدمار. لكن الاستهلال لم يتجاهل ما قام به جلجامش، موظفاً فاتحة النص للانفتاح على خاتمة النص الملحمي، وفي هذا نوع من الذكاء في تحديدات البناء كعتبة جديدة ابتكرها الكاتب العراقي الأول. 
وقبل الدخول نحو إشارات سريعة على العنف الذي لعب دوراً في رسم بعض ملامح الفرد أو الجماعات العراقية. استعين برأي للمفكرة حنة ارندت من كتابها "في العنف"، وهي تقول "لا تحتاج السلطة الى تبرير لها، كونها جزءاً عضوياً من وجود المجموعات السياسيَّة، إلّا أنَّها تحتاج إلى الشرعيَّة. أما العنف فيمكن تبريره أحياناً، فيما يستحيل عليه وفي المطلق، أن يكون شرعيّاً". 
وقد درست حنة ارندت العنف الكامن في أعماق الكائن الإنساني وفي المجتمع، ولا يمكن عزل العنف والسلطة لأنهما دائماً ما يظهران ذاتها معاً. وأكدت حنة ارندت أن العنف في حالات معينة يصبح إرهابياً، بحيث تستعمل الوسائل الوحشيّة، ليس ضد أعداء الطاغية وحدهم، بل أيضا ضد أصدقائه ومؤيديه. وقالت إنَّ: العنف هو في الأساس، نقيض السلطة، إنّهما حين يتصادمان يكون النصر دائماً للأول. 
باستفادة بتصرف من رأي لانغلز ذكرته حنة ارندت أقول بأن العنف -في تمايزه عن السلطة أو القوة، أو القدرة، بحاجة دائمة إلى أدوات، وأعتقد بأن أدواته في العراق القديم هو المقدس وحصراً الإله انليل. هذه الأداة صالحة لكل زمان ومكان، وما يؤكد ذلك الحاضر العراقي. وعلينا ملاحقة المقدس وإعادة قراءته وفحصه باستمرار. لم يكن انليل بريئاً في مزاولاته التدميريَّة، بل واعياً لأفعاله وقصدياً للاستبداد والتطرّف، لأنه يريد دوماً الإشارة والتأكيد على موقعه في مجلس الإلهة ومسؤوليته للسلطة التنفيذيّة، الممسكة بكل عناصر المراقبة والمعاقبة واختيار الملوك ومعاينتهم على الأرض ومن تمظهرات تلك السلطة هو العنف الذي كشفت عنه المراثي والدمارات التي نفذها، من أجل كبح الجماعات وتأديبهم والهيمنة عليهم وإخضاعهم بما يتناسب من السوء والإخلال الحاصل، ومثال ذلك أسطورة الطوفان وتدمير نفر، ولعنة الإلهة. 
انليل وعشتار التي طاردت الفلاح شوكاليتودا أوضحت درجة العنف ونوعه، والدمار المعلن عنه في النصوص. والمراثي كافية لإيضاح ما ينطوي عليه هذا الخراب. وما يريده انليل من الإخضاع الكلي وفرض سطوته الجبارة. كذلك ينطوي على رسالة ضمنية للآلهة الآخرين بضرورة التعاون للحفاظ على السلطة التنفيذيّة، وتمظهراتها على الأرض واحترامها. وأعتقد بأنَّ اتساع مساحة العنف ترتبط موضوعياً بالتردي الاقتصادي والاجتماعي وضعف عائدات المعابد لخلل ما في الأنماط الإنتاجيّة، لذا يلجأ الكاهن الأكبر لتمثيل المقدّس بالذي يراه مناسباً، متماهياً مع الأسباب الأبرز والأكثر حضوراً في حياة المدينة "يجب علينا أن نعرف كما قالت حنة ارندت أن كل انحطاط يصيب السلطة، إنّما هو دعوة مفتوحة للعنف، ولو لمجرد أن أولئك الذين يقبضون على السلطة، سواء أكانوا حاكمين أو محكومين، إذ يشعرون بأن هذه السلطة تفلت من بين أيديهم، يلاقون على الدوام أكبر قدر من الصعوبة من دون مقاومة إغراء استبدال السلطة بالعنف.
كان الآلهة سبباً في حصول العنف والحروب، لأن للملك الذي اختارته السلطة التنفيذيّة ـ انليل ـ وظيفة حماية مملكته والدفاع عنها وعليه تجنيد الشباب للدفاع عن مدينتهم.
قرع الطبول وسيلة إيقاعية/ تصويتية قوية وعالية. كذلك حادة للإعلان عن نذير يستوجب تذكير والتحضر للمشاركة في الحرب. إن قرع الطبول مقترن بالشفاهيّة، كما قال بول زومتور في كتابه مدخل إلى الشفاهيّة. وتغيرت وظيفة الطبل من ترفيهيّة إلى إنذاريّة وإشهاريّة سريعة.
يبدو بأن دخول أنكيدو خفف من سيادة العنف الثقافي المتمظهر في الطقوس الدينيّة عبر ممارسة الجنس الإلهي المقدّس، لكن الملك جلجامش لا يقوى على تعطيل أفعاله، فعاود وظيفته مستثمراً وجود أنكيدو وانعقاد صداقة بينهما. السؤال هل كان انليل راضياً بسفرتهما إلى غابة الأرز؟ لم يوضح لنا نص الملحمة ذلك. واكتفى بتبيان دعم الإله شمش. وإذا كان انليل راضياً لماذا اعتبره أحد الأسباب التي جعلته يتخذ قرار اغتياله؟ ولم تتكتم الملحمة على التحقق من الأفعال الايجابيّة التي تقضي بالنتيجة إلى دعم السلطة الدينيّة والسياسيّة وتكرّس السيادة وسط أوروك. أعتقد بأن السبب الجوهري لاغتيال أنكيدو هو علاقته مع الملك وخوف انليل من انفتاح أوروك بشكل واسع أمام الوافدين من الصحراء، وهذا سبب أكثر خطورة، لأنه يغلق الأبواب أمام التنوع والتباين الذي يذهب نحو حوار مشترك، لا بد وأن يحقق نوعاً من القبول بالآخر، عبر ثقافته وتقاليده، معتقداته وطقوسه الدينيّة. 
لذا أعتقد بأنَّ الملحمة لم تستطع أن تتوصل إلى سبب موضوعي لقرار أنليل بالاغتيال، لأنه كان حاضراً عندما أعلن الإله آنو أمره للأم الكبرى لتخليق أنكيدو. بمعنى كان على علم بالذي حصل في أوروك من هزة جماعيّة قويّة ضد الملك. وما هو السبب الذي عطل انليل من اتخاذ فعل تدميري للمدينة؟ مثلما حصل لمدينة نفر ودمّرها بالكامل، مثلما كشفت مرثيتها، ونحن نعرف بأن ما حصل فيها لم يكن خرقاً أو تمرداً على النسق الإلهي السائد، والمعروف منذ زمن طويل؟ هذا مجال يحتاج فحصاً ويحتاج معلومات تفصيليّة عن المجالات الاجتماـ سياسية والاقتصادية، والتجارية، والزراعية، ومعرفة لعلاقة أوروك مع المدن المجاورة والبعيدة، حتى يتمكن القارئ من فحص هذا الموقف وأيضاً اغتيال أنكيدو وإلّا ستظل التأويلات في الحدود التي توصلنا إليها معاً وهي مثيرة للتساؤل أيضاً. 
لقد تطرّف وبمغالاة كبيرة عندما ذهب انليل باتجاه الاغتيال، بعدما حصلت تحولات كبرى في شخصيته، حيث "ابتدأت مرحلة التكشف الجديدة له. مرحلة أبصار الحقائق ومعرفتها بوعي، والاتجاه معها بخط مسير واضح، إذ أكدت تجربته الجديدة وجود طرفين للحياة الطرف الأول: مدينة أوروك وحضارتها التي أسست معها إيديولوجية سياسية، متمثلة حياة القهر والاضطهاد والاغتصاب والطرف الثاني: حياة البراري التي غادرها، لكنه ظل محكوماً لها وحاملاً تأثيرها، وهذا ما ظهر كمسكوت عنه في شخصيته".
لم يشر نص الملحمة -بسبب صمت الكاهن الذي كتب - إلى أن الملك جلجامش قد طلب من الإلهة مساعدته للتخلص من أنكيدو مثلما تعارف على ذلك لدى الكثير من الملوك وأشار لذلك د. عبد الرضا الطعان. 
يبدو بأن التمرد الحاصل في مدينة أوروك نتيجة للخلل البنيوي في المدينة وسلطتها بسبب أفعال الملك وباستفادة من حنة ارندت أن الخلل في السلطة، وفرّ فرصة للتمرد الذي تم امتصاصه عبر ذكاء الإله آنو، الذي مثل الآلهة عندما أعلن قراره. ولم يكشف نص الملحمة عن فعاليات سلطوية أعلن عنها ومارسها الملك وضعت حداً لحالة الاحتجاج، بل كان دخول انكيدو مثالاً لقوة خلقت التوازن والمجاورة مع الملك "حتى السلطة الأكثر استبداداً التي نعرفها، أي حكم السيد للعبيد، الذين كانوا على الدوام يفوقونه عدداً، لم تتأسس أبداً"، على تفوق في أدوات الإكراه لوصفها هكذا، بل على تنظيم متفوق للسلطة ـ أي على تنظيم التضامن بين السادة. أن الرجال الأفراد الذين لا يجدون إلى جنبهم آخرين يدعونهم، لا يكون لديهم أبداً ما يكفي من السلطة لاستخدام العنف استخداماً ناجحاً. من هنا نجد في المسائل الداخلية، كيف أن العنف يشتغل بوصفه الملجأ الأخير الذي تلجأ إليه السلطة لمواجهة المجرمين أو المتمردين، أي ضد الأفراد المعزولين الذين قد يرفضون أن يخضعوا لسيطرة توافق الأكثريّة.
يفيدنا هذا الرأي على الرغم من أنه نتاج لزمان ومكان مغاير ومختلف عن المرحلة التي أنتجت فيها ملحمة جلجامش في التاريخ الأكدي لأن حنة ارندت مفكرة وعالمة اجتماع بارزة، تمنحنا إمكانية الاستثمار وتوظيف بعض الآراء الخاصة بالعنف والاستبداد، لأنها وظفت السلطة بوصفها طرفاً مركزياً في إنتاج العنف.