طالب عبد العزيز.. تجلَّيات ليلة عابسة

ثقافة 2022/07/26
...

 إسماعيل نوري الربيعي
مترعاً بالأحلام والصبوات، يناجي أقماراً رسمها عند أطراف أفق سحيق. باشق وفير هذا الطالب عبد العزيز، يناجي بثقة لا ينوشها اضطراب أو تردد حول يد مترعة بالضياء. متلمسا فلوات تزاحمت فيها فلول من الأمنيات، تعرّشت في الإملاق والجزع، لا ترعوي تسير الهوينى تحت ضياء كليل. لا يتردد طالب عبد العزيز عن مراقبة الشمس التي اعتادت أن تكلل  بساتين أبو الخصيب من جهة النهر، ها هو ذا يشهد أحوال الإعياء الذي راح يستبد به، بعد أن تكبّدت مشاق لعبة الغميضة مع تلك الغيمة الشقيَّة التي راحت تسد عليها منافذ الوصول إلى مبتغاها. 
لا تنفك الغيمة تفعل الأفاعيل بالضوء المأمول الصادر عن الشمس، والانتظار الصامت الذي يتأملها سعيا لطرد العطش والظمأ، ولُواح بات يشرئب بكل ما فيه من جموح نحو هذه الأرض، التي راحت تستجدي النجاة بشربة ماء، بنفحة نسمة باردة، بكليل ضوء قد يمرق من بين هذه السحابة الكبيرة، العامرة بالأمنيات، والأمنيات فقط. حتى جعلت من الشاعر لا يتوانى عن بناء جملته التي يسوّرها القلق والاضطراب، وربما الجزع (أحدهم كانت يده مضاءة). السحابة بوصفها المنجي من الهلاك والجفاف والعطب. تتبدى هنا وكأنَّها صخرة جلمود لا أمل فيها. سكونيَّة يملؤها الجمود والركود، حيث الأوام والأوار والسُّعار واللُواح. توظيف الضد النوعي يحضر بكثافة عالية، معبراً عن قدرة الشاعر على إعادة توزيع العلاقة بين عناصر القصيدة في تشييد دقيق واستثمار حاذق لليومي والمعيش والمتداول.
إنَّها السحابة الكبيرة التي راحت تغطي كل شيء، وصارت تسدُّ منافذ الضوء، لتجعل من الانفتاح والأمل، والرجاء والترقّب والأمنيات، والمُراد والمبتغى، والرغبة والتطلّع، وكأنَّها محض ذكريات (كانت في يد أحدهم). طالب عبد العزيز لا يلبث أن يجأر بالشكوى، وحاله كحال أوس بين حجر الذي لم يتوانَ عن القول؛ (ودِّعْ لميسَ وداعَ الصارمِ اللاحي). حيث المسعى نحو تشكيل فضاء الصورة؛ (لم يعد في القمر نور يكفي، فاتخذت يدي هاديا، أتلمس الطريق، إلى البيت). ها هو ذا ينشد المستقر بعد أن أعيت به المنافذ نحو النور. 
إنَّه التطلّع نحو إعادة النظر بالمجمل من الحفز الدلالي الذي يقوم عليه الفعل من خلال الحسم، التي يوجزها بــ (فاتخذت يدي هاديا). وعي الشاعر يقوده نحو الحسم والبت والجزم، واتخاذ القرار في لحظة شديدة الحراجة، بعيداً عن الإقحامات والزيادات. وظيفة الشاعر تتبدى بجلاء وحيوية طاغية، تقوم على استحضار البديل النوعي. باعتبار (ما حكّ جلدك مثل ظفرك). لا تركن إلى الكسل والخمود والخمول. حين ينطفئ الأمل والرجاء في أحد التفاصيل التي يزخر بها العالم، عليك بنفسك ولا شيء سواها. نشيد يحفزه هذا الرجل في صلب القَتام والعتمة والظلمة والدَّجْن والدُّجنة. إنَّه الاستحضار للتعقّب والتقصّي والتلمّس والتوخّي والتوسّل والتشوّق والتطلّع. 
طالب عبد العزيز يستنزف الفعل الماضي الناقص (كان) بمهارة الأريب، وبراعة البصير، وحذق الحصيف الخبير. خلجات الذات يضعها في حوار داخلي، شديد التناغم. حيث القصيدة في أشد أحوال عافيتها. هاهو ذا يحيلنا بجنان ثابت لا رجفة فيه، نحو مكنونه الذاتي وإرثه الثقافي وخلجاته النفسية، وشغفه وأخطائه وتبصّراته، بل والمكان الذي يتفاعل فيه من دون أن يسقط في المباشرة. (أخطأت موضع الحجارة، تلك، التي كنت اتخطاها في النهار). لا تثريب عليك، إمضِ طالب، إمضِ، مارسْ تفاصيل حياتك التي اعتدت عليها، بُح ما تشاء وكما تشاء. حررْ نفسك من ربقة الظلمة، واسعَ نحو توظيف حواسك جميعا من دون تردد أو ارتباك أو حتى التباس. رغبتك الجامحة بتملس الضوء، تجعلك بعيدا عن التحيّر والتكرر والتلجلج والغموض والضياع، الباحث عن الضوء لا تروعه الحيرة.
فها أنت تكتنز الوثوق الطاغي على الرغم من زعمك (سعف وزوائد قصب، كانت تجمعها يدي فأمرّ، غير واثق). صورة تؤكد فيها القدرة البلاغيَّة على إدانة (حاطب الليل) الذي يتربّص بالنفوس. والاستنكار للمجمل من الخمول والادّعاء، والاتهام المباشر للافتراء، والرفض للحكم المسبق على الأشياء، والرفض للتشهير والتجنيح. واللفظ لكل ما يتعلق بالتجريم والتأثيم. والإدانة البليغة الفصيحة لكل ما يتعلق بالإتهام. 
جدليَّة الظلام والنور، التي ظل طالب عبد العزيز يسترشد بها في نصه، تفصح عن المسعى العميق والدأب الناجز، نحو فكرة (استعادة الروح). بلى الروح ولا شيء سواها تلك التي راحت تعصف بها التفاصيل والأحداث والرغبات والتقمّصات، حتى راحت تسد المنافذ على الوجود الأصيل والجوهري الكامن فينا. نداء يطلقه طالب عبد العزيز من خلال البحث عن منافذ الضوء، واستعادة ما تبقى منه، سعياً لاستعادة إنسانيتنا التي تم الفتك بك بها، وهدرها على دكة الرغبات والحاجات الزائفة التي باتت تتسرّب في المجمل من تفاصيل غول الاستهلاك الذي راح يستبدُّ بحياتنا اليوميَّة ويحيلها إلى جحيم لا يطاق. 
إنَّها الدعوة العميقة والآسرة نحو إعادة النظر بهذا العالم الكئيب، الشاج المحزن، العبوس القابض القابض، الكامد الكاسف، المكروب المُغتمّ. (لا أعلمُ كمْ سحابةٍ غطّتِ القمرَ الليلةَ تلك، قبل أنْ يصْحَبني أحدُهم، كانَت يدهُ مضيئةً بما يكفي، لأتبيَّنَ طريقيَ إلى السرير). هاهو ذا الشاعر يستمطر القصيد، مسترشدا بلغة قوامه السلاسة والتيسّر واللين، سعيا لاستيضاح معالم الطريق إلى (السرير). حيث بيت الأسرار والاكتتام والإخفاء، والستر والإكنان، والطمس والإسرار.