الدكتور حسن حنفي: الأضدادُ في كأسٍ واحدة – 4

ثقافة 2022/07/27
...

 د. عبد الجبار الرفاعي
 حسن حنفي ‏مفكرٌ مدهش، لا يخرج القارئ من متاهة إلا ويدخله ‏في متاهات عويصة، ربما يتعذر عليه الخروج منها كل حياته. يستطيع أن يكتب عن معتقدين متعارضين بلغة تصالحيَّة توحدهما، وأحيانا يكتب رأيين متضاربين عن معتقد واحد. كتاباته متنوعة غزيرة، الجمل قصيرة، الإيقاع سريعٌ، يكتبُ بلغة عاطفيَّة متوترة، بقدرة فذة على إيقاد المشاعر قبل إيقاظ العقل، واستعمال الدين في إذكاء العواطف وتحريض الضمير، قبل توظيفه في مجاله الروحي والأخلاقي.
 على الرغم من أن حسن حنفي خبيرٌ متمرّس في التراث، يمتلك تكوينا ممتازا في أصول الفقه، واطلاعا واسعا في علم الكلام، ‏مضافا إلى خبرته الجيدة في الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع الحديثة، إلا أن عقله لبث حتى وفاته يرى الماضي والحاضر في أفق قراءته الأيديولوجية. 
  القراءة الأيديولوجية تتلاعب بالتراث وتسقط عليه رؤيتها وأحلامها الرومانسيّة. الأيديولوجيا تمارس حجبا مزدوجا للماضي والحاضر، ترى الماضي في الخيال كما تتمنى أن تراه، ترى الحاضر في الأماني كما ترغب أن تراها. في الأيديولوجيا يقع التفكير أسيرًا للعواطف وتتحكم فيه المشاعر والانفعالات أكثر مما يتحكم فيه العقل. التفكير عندما يستمد طاقته من الخيال فقط من دون أن يمحصه العقل، يعجز عن رؤية الأشياء بوضوح خارج مملكة الخيال الغزيرة المشحونة بالمسلمات والأحكام والإجابات الجاهزة. الأيديولوجيا تستمد قوة تأثيرها من الحماس والعواطف والأمنيات وليس من العقل. الحماس متعجّل متحيّز متقد، لا يلامس الحماس شيئا إلا وأوقده. العقل بارد متمهل، يتفحص الأشياء ويغربل الأفكار، ويدرس المعتقدات بتأمل وهدوء وروية. تستمد الأيديولوجيا فاعليتها من قوة وكثافة الشعارات وإيقاعها السريع وتكرارها المتواصل. عندما تتسيّد الأيديولوجيا يغرق الذهن بالشعارات والأحكام المسبقة والإجابات الجاهزة، ولا تعود للتفسير العميق والتحليل العقلي الدقيق حاجة، وقلما نعثر في لغة الأيديولوجيا على أدلة علميّة وحجج منطقيّة وبراهين عقليّة.
 حسن حنفي بارع في القراءة الأيديولوجية للدين والتراث، وتوظيفها بتلفيق مقولات الفرق المتصارعة، ودمج الماضي بالحاضر في خلطة غريبة، يخرجها لفظيّا ببيان آسر أحيانا، يستطيع أن يحوّل مقولة واحدة إلى كوميديا مضحكة مرة، وتراجيديا سوداء مرة أخرى، وربما يجمعهما معًا في مشهد أخاذ. لا يغفل القارئ المتمهل عن التلاعب والتمويه الذي تمارسه قراءتُه الأيديولوجيّة. في بعض المواقف يعلن نواياه وما يعمل عليه، وإن كانت تتضمن تهافتا عمليًا مكشوفًا يتنكر إليه الواقع، فهو يعمل في مصر كما يقول على: "‏الجمع بين شرعيَّة ثورة يوليو، وشرعيَّة الإخوان. بين شرعيَّة الماضي، وشرعيَّة الحاضر… ‏صيغة توحد بين صيغة الخطاب السلفي والخطاب العلماني، فكلاهما ناقص. صيغة يجعل بها الوطن وطنا للفقير مثلما هو وطن للغني". 
  كتبَ حسن حنفي عن تجربته في الانتماء للإخوان المسلمين، وتحدث عن تأسيس هذه الجماعة ودرس أدبياتها وتاريخَها. قرأت كل ما نشره حول الجماعة، رأيته منحازا لا يكف عن تبجيلِها وامتداح رجالها والاعتذارِ لمواقفهم الخاطئة، وتوجيه دلالات ما تتضمنه أدبياتها إلى غير وجهتها، وتأويل مقاصدها بعكس ما ترنو إليه. يسرف خياله في رسم صور بديلة للأشخاص والأفكار والكتابات لهذه الجماعة، لا يرى القارئ الذكي شيئا من ملامح هذه الصورة في غير كلماته العاطفيَّة. 
   ‏مواقف حسن حنفي وكتاباته عن جماعة الإخوان المسلمين تكشف عن تواطؤ واضح ومراوغة مكشوفة. ‏يكيل لهم المديح بمناسبة وغير مناسبة، ويتغافل عن التبسيط في رؤيتهم للعالَم، ووهن تفكيرهم السياسي، وعجزهِم النظري عن فهم الدولة، ومناهضتِهم للدولة الحديثة ونظمها، ولا يقف طويلا عند أحلامهم باستئناف الخلافة والدولة السلطانيّة في تاريخنا. 
لا يُنكر أن حسن حنفي متعدد المواهب، متنوّعُ التكوين الأكاديمي واللغوي، ولا أظن مفكرا موهوبا بقامته تخفى عليه هشاشة أدبيات الإخوان المسلمين وسطحيَّة أفكارهم، وأوهامهم عن الدولة والمجتمع، وعجزهم عن اكتشاف طبقات الواقع المركب الشائك العميق. لا يحتاج القارئُ إلى الاستقراءِ الواسع والغوصِ في مؤلفات حنفي كي يرى غضَّ نظره وتواطئه المكشوف مع مواقف الإخوان السلبيَّة من العلوم والمعارف والآداب والفنون الحديثة، وتغافله عن كتاباتهم التحريضيَّة ضد الأدباء والمفكرين الأحرار. يتجاهل حسن حنفي الآثار العاصفة لأجهزتهم المختلفة ومؤسساتهم العديدة على حياة المجتمع المصري، وكثافةَ تأثير ما يمتلكونه من أجهزة تربية وتعليم وتثقيف ودعوة وإعلام ودعاية، مثل المدارس بمختلف مراحلها، وأئمة الجماعة وخطباء الجمعة من أعضاء الجماعة، والمؤسسات الدعويَّة، وأخطبوط الشبكات الماليَّة في مصر وخارجها.
   يمتدح حنفي هذه الجماعةَ ويشير إلى ما يفتقر إليه المجتمع المصري بغيابها، قائلا: "‏كانت جماعة الإخوان تمثل تيارًا أصيلا في مجتمعنا. وكانت على وعي بقضايا التراث والتجديد. وكانت تأخذ مواقفَ حاسمة بالنسبة للتراث الغربي، والتبعيَّة للآخرين، وتقليد مظاهر المدنيّة الغربيّة، والافتتان بقشور الحضارة… ‏ومنذ توقف نشاط الجماعة والافتتان بالغرب يزداد، والتقليد للآخرين يقوى، والتهافت على البضائع المستوردة، وعلى البيع والشراء بالعملات الحرّة، والجري وراء أنماط الاستهلاك… نشأ الشباب فلم يعرف إلا تقليد الغرب في غياب حركة أصيلة تأخذ موقفا نقديّا منه، كما كانت تفعل جماعة الإخوان المسلمين". ويمضي في الحديث عن التأثير الهائل للجماعة في المجتمع المصري، بوصفها ناطقةً باسم "التيار الإسلامي الإصلاحي الأصيل"، وما أنجزته من مكاسب استثنائيّة لمصر، من أن يذكر أثر هذه المكاسب في البناء والتنمية الشاملة، ويلوم أخيرا من يحاول أن يجهض مسيرتَها. يلخص ذلك بقوله: "‏تحوّل الدين من عقيدة إلى حركة جماهيريّة، وأصبح الإسلام غذاء الجماهير اليومي، ولأول مرة في عصرنا الحاضر يجنّد الإسلام الجماهير بهذه القوة، وهذا الاتساع… أصبح الدين لمصلحة الجماهير، وأصبح الإسلام دين الشعب، ووجد الإسلام في الشارع، فوق الحصير، وعلى المصطبة. وأصبحت الجماهير وريثة العناية الإلهيّة في القدرة على العمل والحركة… ‏كانت الجماعة دليلا ومؤشرا على أن التيار الإسلامي الإصلاحي الأصيل ما زال مستمرا، وكانت بؤرة يلتف حولها كل مسلم يود جعل إسلامه نظامه في الحياة. 
وكانت مدرسةً يتخرّجُ فيها الدعاة، وكانت جريدةً يتطور فيها الفكر الإسلامي، وكانت محطا لكل زائر إسلامي. كانت مَعْلَما من معالم مصر، وعلامةً على طريق مستقبلها وماضيها، ومحورا تدور حوله كل قوانا الإسلاميَّة المبعثرة كما هو الحال الآن. لقد كسبت مصر كثيرا فلماذا تفرط في ما كسبت؟". يعلنُ حسن حنفي أسفَه على ما خسره الفكرُ الإسلامي عندما: "وقف التطور الفكري للجماعة، وهي خسارة كبيرة على مستوى الفكر الإسلامي الحديث، فقد كان الإخوان المسلمون حركة إصلاحيَّة أصيلة، نابعة من فكرنا الإصلاحي الحديث منذ ابن تيميَّة، وابن القيم، ومحمد بن عبد الوهاب، والمدرسة السلفيَّة بوجه عام… ‏وامتاز فكر الشهيد حسن البناء بالوضوح والإيجاز والتركيز، كما امتاز أسلوبه بالإقناع. ثم تطور فكر الجماعة على يد المفكر الشهيد سيد قطب، وتحول الإسلام إلى: نظرية في العدالة الاجتماعيّة، والسلام العالمي، والتحرر الإنساني، كما أصبح أيديولوجية شاملة تعطي تصورا فلسفيّا للعالم، ونظرية في الفن، ومنهجا في التفسير. ولسوء الحظ توقف هذا التطور الفكري باستشهاد مفكرنا الأخير. ومن يدري ماذا يدور في عقول مفكرة الإسلام الآن". 
 يسكت حنفي عن نمط التديّن السياسي المغلق الذي صنعته الجماعة، وجعلته في صِدام مع إسلام المجتمع المسالم، وأحدث انقساما حادا في المجتمع والأسرة الواحدة، ووضعت الجماعةُ هذا النمطَ من التديّن في مواجهة المؤسسات الدينيّة التقليديّة العريقة كالأزهر، ووجهت أعضاءها للانشغال بهموم الغير قبل هموم المواطن المصري، لأن "جنسيَّة المسلم عقيدته" كما يشدد سيد قطب، وليس وطنه. نشر حسن حنفي "الدين والثورة في مصر" في ثمانية أجزاء في ثمانينيات القرن الماضي، وكتب كثيرا عن الموضوع بعد هذا الكتاب وقبله. لم أقرأ له بحثا علميّا ناقدا، يستعمل فيه مناهج العلوم الإنسانيّة الحديثة الملمّ فيها، ويدرسُ في ضوئها الآثار السلبيّة لمنابر جماعة الإخوان وأدبياتهم ومواقفِهم على التربيّة والتعليم والثقافة والسياسة والاقتصاد والتنمية والهويّة الوطنيّة في مصر، وما أحدثته منابرُهم ودعايتُهم من استقطابٍ طائفي حاد، تفجّرَ في حوادث عنف مؤسفة، إثر إثارة بعض منابرهم لإحياء أحكام أهل الذمة المنسيَّة وأمثالها، وتصدع مكونات المجتمع الذي توحده المواطنة والانتماء لأرضه وهويته المصريَّة.