ربع قرن على رحيل الجواهري.. ما الذي بَقِيَ من روح القصيدة العموديَّة؟

ثقافة 2022/07/27
...

 البصرة: صفاء ذياب
ما زالت المقارنة بين المتنبِّي والجواهري قائمة حتى اليوم، هذه المقارنة التي قوامها التجديد في روح القصيدة الكلاسيكية، فالمتنبّي خرج بالقصيدة من موضوعاتها وبنيتها وتقنياتها إلى مفازات غير مأهولة سابقة، والجواهري من جهته أعاد للشعر جماله وروحه بعد قرون من الموت في روح القصيدة.
 
غير أنَّ الفارق بين المتنبّي والجواهري أنَّ الأول كان في جعبته شعر لم يسعفه الوقت لقلب مفاهيمه، في حين عاش الجواهري ما يقارب القرن من الزمن، وهذا بحدِّ ذاته كان موئلاً لطرح التحوّلات الفنيّة والفكريّة التي أسهمت في ترسيخ القصيدة الجواهريّة منذ عشرينيات القرن الماضي حتى العام 1997، وهو عام رحيله، الذي اختتم في السابع والعشرين من شهر تموّز تاريخاً من النضال والمدائح والهجاء والتجديد، فضلاً عن الغزل الذي طُرح بأشكال عدّة مثل أفروديت، ولمّي لهاتيك لمّا، بعد أن قدّم واحدة من عيون الغزل العربي وهو بعمر العشرين: جرّبيني.
وبحسب ما يرى الناقد صالح الأشمر، فقد عاش الجواهري حياة مديدة عاشها هذا الشاعر العملاق تارِكاً وراءه نهراً هادِراً يتدفّق من عيون القصائد التي جاءت مُنتظمِة على عمود الشعر التقليدي الأصيل، زاخِرة بالمعاني والصوَر والمواضيع المُعاصِرة في تزاوجٍ بديعٍ بين الماضي والحاضر.
واليوم، بعد ربع قرنٍ من رحيل شاعر العرب الأكبر: كيف نقرأ الجواهري اليوم؟ وما الذي تغيّر في روح القصيدة العموديَّة بعد تحولات روح الشعر نفسها؟
 
بقاء الشعر
كتب الشاعر الدكتور عارف الساعدي مرَّةً في ذكرى الجواهري قبل عامين مقالة تدور فكرتها الرئيسة حول سؤال هل يصلح الجواهري أو شعر الجواهري بالأحرى في الأنظمة الديمقراطيّة؟ بمعنى أنَّ مرحلة الجواهري وبيئته السياسيّة والاجتماعيّة أسهمتا كثيراً في توجيه شعره نحو هذه الأهداف فكان صاخباً وعنيفاً ومتمرّداً، أما الآن في الفضاء المفتوح نسبياً- حسب قول الساعدي- لا حضور للشعر السياسي أو الهجائي، لأنَّ الأشياء متاحة للجميع، وهذا يقودنا إلى وجهة نظر تقول إنَّ الكثير من شعر الجواهري مرتبط باللحظة الزمنيَّة ولم يخرج منها، لذلك بمجرّد زوال تلك اللحظة سواء أكانت سياسيّة أو اجتماعيّة، فإنَّ القصيدة ستزول مع زوال الحدث، لذلك فإنَّ ما يتبقّى من الجواهري هو الشعر الخالص المكتوب للشعر نفسه، كقصيدته بائعة السمك في براغ أو قصيدة الراعي أو أم عوف أو يا نديمي وقصائد أخرى كثر كتبت للشعر نفسه.
أمّا ما تغير من الشعر العمودي بعد الجواهري، فيظنُّ الساعدي أنَّ هناك مساحات معقولة من التغيّرات على مستوى بنية القصيدة الخليليّة والوحدة العضويّة والموضوعيّة فيها، إذ ظهرت تجارب فرديّة وجماعيّة في العراق وخارجه تدعو إلى تحديث النص العمودي واستيعابه متطلبات الحداثة الشعريّة، نجحت بعض تلك التجارب وأخفق الكثير منها للأسف.
 
أرشفةُ الهمِّ العراقيّ
يشير الناقد الدكتور عليّ حُسين يوسف إلى أنَّ الجواهري يعدُّ معادلاً موضوعيّاً لمئة عام كاملة، هو قرن كامل من الأرشفة والتوثيق والرفض والاحتجاج والشعريّة فليس بدعاً أن يمتدَّ لمئة عام أخرى وربَّما أكثر، فكما نطرب إلى الآن للمتنبي السّاحر الكبير وليس الشّحاذ الكبير كما وصفه الغذامي، ونحن على يقين بأنّه حقاً مالئ الدنيا وشاغل النّاس، فما زلنا نرى في الجواهري متنبّي عصرنا فقد تمثّلناه مقترَباً شعريّاً ناوش نفوسنا بوطنياته ورثائياته ومدحياته ربَّما أكثر من المتنبّي نفسه، وذلك أنَّ الجواهري لم يكن وريثاً للمتنبّي وحده، بل كان مستوعَباً لأروع ما في المدوَّنة الشعريّة العربيّة وامتداداً حيَّاً للشعر العربي برمّته برغم تحوّلات الشعريّة العربيّة والعراقيّة وتمرحلها زمنياً وتجنسيّاً بدءاً من شعر التفعيلة ومروراً بقصيدة العمود الجديد وانتهاءً بقصيدة النص الحديث، فقد كان الجواهري خيطاً متيناً ناظماً لتفصيلات تلك الأنواع كلّها، وكان في الوقت ذاته مرجعيّة ضاغطة تسرّبت بغزارة إلى لا وعي الأجيال الشعريّة المعاصرة.
مضيفاً: اتسم شعر الجواهري من الناحية المعنوية بالصراحة والجرأة والعنف، وبالنفس الملحمي الواضح، ويعزى ذلك لصدق الشاعر ووضوح رؤاه لا سيّما في شعره الوطني، ومن الناحية الفنيّة يمكن القول إنَّ شعره امتاز بقوّة الألفاظ وشدّتها وربَّما غرابتها في الرثاء والمديح والهجاء حتى يبدو للقارئ كأنّه أمام شاعر عباسي ينهل من معين اللغة الصافي الذي يتمنّى غيره ورود منبعه، لكنّنا نلحظ رقّة الألفاظ واضحة في الغزل والحنين، والشاعر في الحالين يتخيّر ألفاظه بعناية، وتبدو الموسيقى الشعرية منسابة في كلِّ ذلك، لكنَّها ثائرة بلا هوادة حتّى لكأنَّ القارئ أمام أمواج متعاقبة يستهويه منظرها.
 
خلود النص
وترى الدكتورة رائدة العامري، أن الجواهري يمتلك من الثقافة الواسعة- لا سيّما- في المجال الفكري والثقافي والاجتماعي، ما يتخذ جهة مؤثرة حسب طبيعة العملية الخطابية الاقناعية بين الشاعر والمتلقي، ومدى مقدرة الأوّل للتأثير في الثاني، إذ لا يخلو نصّه من جماليات شعرية ذات تأثير مباشر في المتلقي، نابع من تسخير أفكاره، لتؤدّي وظيفتها التواصلية التأثيرية وتستوعب تداعيات الواقع الجمعي وتلمس قضاياه بفنية عالية.. مثل قصيدة (سلمى على المسرح) التي تتضمّن البعد الاقناعي لتلوين الخطاب، وما يحمله من بُعد إيحائي وملمح دلالي مثقل بحمولاته، لخلق التأثير في المتلقي، وجذبه بهدف الإقناع. وهي لا تتحدّد بحب رجل لامرأة، قدر احتوائها على صور متنوّعة لطبيعة المرأة الاجتماعي وتأثيرها الجمالي في الحياة. 
هذه الرمزيَّة استثمرها الجواهري في بثِّ شحنات تؤثّر في نفس المتلقي والقدرة على إثارة عاطفته. فكسب نصّه الخلود في ذاكرة الشعر وقضاياه، إذ إنَّ تجربته فريدة لا تتكرّر جدّد بالموضوعات ولم يكن نسقيّاً أو نظّاماً بلا خصوصيّة. وموهبته تعاضدت مع ذكائه ومعرفته. وكونه صاحب رؤية وموقف. لأنّه لم يتبع الأسلوب التقليدي والنظم المكرّر.
 
قصيدة حرّة
وتؤكّد الشاعرة أفياء أمين الأسدي أنه حتى اليوم لا تخلو طاولة للشِعر من حضور الجواهري، عن شِعره أو شخصه أو نوادره.
معتقدةً أنَّ الكثير تغيّر في روح القصيدة العموديَّة وهذا تبعاً لطبيعة العصر، ولولا ذلك ربّما لتسَبّبنا بخلق فجوة هائلة بين الشاعر وذاته، وبينه وبين قارئه، لكنّ تَغيُّر روح العصر يستوجب بالضرورة أن يمثّل شاعر اليوم أمام ذاته بيئة اليوم وطقس اليوم وشعور اليوم وليل اليوم، ليس باختياره طبعاً، إنّما بنشأته وجوّه العام.
وتظن الأسدي أنَّ ما تغيّر أكثر من روح القصيدة العموديّة هو نوع القارئ، بدليل أنَّ قصيدة الجواهري حيّة حتى اليوم، ولها متذوّقوها المخلصون، ولا شكّ أنَّ قارئ القصيدة العموديّة اليوم يعبر كثيراً من الحواجز في عُروض القراءات المتعددة ليصل إلى ما يبحث عنه، وهذا ما يؤكّده توجّه الكثير من القرّاء اليوم نحو الرواية والقصة ومختلف أنواع السرد أكثر من توجّهه نحو قراءة الشِعر، لعلّ ذلك بسبب كثرة النتاج المتناوَل لعدد غير قليل من الكتّاب الذي لا يمثّل الشِعر ويخيف القارئ أن يضيع فيه وقته وجهده، وكثرة النتاج الأدبي الذي تعرضه بعض دور النشر التي تهتمُّ بالجانب التجاري أكثر من جودة المطبوع، أظننا نقع جميعاً تحت طائلة مسؤولية ما يُقرأ اليوم، الكاتب الجيد الذي لا يتواجد مكتوبه، والقارئ الذي لا يبحث عن الجيّد، ودور الطبع التجاريّة، الأمرُ يطول.
أؤمن الأمس واليوم وغداً بقصيدة الجواهري، بذلك الشِعر الذي حالفنا الحظ بوجودنا في زمنه، بالقصيدة العمودية التي أثبتَ (أبو فرات) أنَّها حرّة، تلك التي ترتدي ثياباً أنيقة تخطف عين القلب، تلك القصائد التي تمثّل روح الحياة الشخصيّة والاجتماعيّة وتؤرّخ موسيقى الشعوب، وتؤكد كلّ يوم أنَّها لن تموت.
 
كتاب الأزمنة
وبحسب الشاعر قاسم خلف، فالجواهري حالة نادرة، واستثنائيّة، فهو شاهد على تحوّلات العراق السياسيّة ابتداءً من الأنفاس الأخيرة للدولة العثمانيّة مروراً بالاحتلال البريطاني إلى الانقلابات المتوالية، مروراً بالحروب والحصار، فهو شاهد على قرن من التحولات، والتغيرات السياسيّة والاجتماعيّة.
والجواهري عاش وتفاعل مع هذه الأحداث، ووثّق بقصائده صوراً من عدّة جوانب لتلك التحوّلات، ويمكن أن ننظر من نوافذ قصائده؛ لنقرأ تاريخنا الحديث من خلال شعره؛ الذي صوّره لنا رفضاً، وتمرّداً، أو قبولاً. كذلك نقرأ الجواهري من خلال دعمه لقضايا المرأة، والتعليم، ومحاولاته المستمرّة لفضح عورات الجهل، والتخلف. فهو كتاب لكلِّ زمان؛ باعتباره امتلك حواس المعرفة وجاهر في نشرها؛ تاركا أثره الذي لن يبلى أبداً.
 
مهمّة الشعراء
ويكشف الشاعر مفيد البلداوي أنَّ موضوعة الشعر وروحه التي لا يحس بها أحد لم تتغيّر منذ وجودها، فالأغراض الشعريّة هي ذاتها مع انحسار كمٍّ كبير منها أو تعرّضه للإهمال، لكنَّ مهارات الشعراء هي التي تختلف من وقت إلى آخر، ولو أخذنا بنظر الاعتبار الواقع المعاش والعصرنة لكثير من الدلالات فلن نقف على أيِّ تطوّر ملحوظ للشعر العمودي فهناك كم كبير منه حديث الولادة، لكنّه موغل بالكلاسيكية كما أنَّ الكثير من الشعر القديم شعلته مواكبة وحيّة وتصلح لأن توصف بالمدهشة دائماً، وربَّما فيها شيء من الحداثة. ويريد البلداوي أن يتخيّل أحدنا كيف سيكون الشعر بعد ٢٥٠ سنة مثلاً، وكيف سينظر شعراء هذا التأريخ المتخيل لشعراء عصرنا الحالي. فمهمّة الشعراء الآن هي التقاط الدهشة من هذا الكم الشاسع من القبح في وجه العالم وهي مهمّة صعبة جدّاً