شعريَّة الموت الافتراضيّ

ثقافة 2022/07/28
...

 قيس عمر
 
في بعض الأحيان تُترك الصفحات الشخصية في مَجَرةّ الفيس بوك الافتراضية سابحةً، متخلّية، عائمة، ومحلّقةً لوحدها في مدار من اليُتم والوحدة، وذلك بفعل فقدان السيطرة الحتميّ على الصفحة الشخصية، فيحدث أن تُهجر الصفحاتُ الفيسبوكية، أو تُتركُ على حين غفلة، ويمضي أصحابُها نحو مَجَرةّ رقميَّة أخرى في هذا العالم الافتراضي، أو قد يرحل أصحابها نحو بوابات المصير المنتظَر، فتُقادُ أسماؤهم الراسخة وحيواتُهم إلى جهة مُتخيّلة، تقع في دفتر النسيان الأبديّ، فتغيب تفاصيلهم المحروثة على صفحات التواصل الاجتماعي، وتُطوى سيرُهم الشخصية المُختصرة في يوميات العالم. 
لربما لا فرق: يرحلُ أو يختفي أصحابُ الصفحات الفيسبوكية مثل خيط من المياه النازفة، وهي تتسرب على رمال صحراء منسية، وتتسرب كلماتهم الحياتية في الفضاء، ناشرة أطيافاً حُلميةً للكتابة، والصور، والذكريات، والأمزجة، والأسفار، ستغيب تفاصيلهم الحياتيّة وملامحُ وجوههم التي أجهدتها لقطات السيلفي، وما سيبقى من تلك الصفحات الشخصية النابضة، هو محض أسماء وظلال، تنتقل سراعاً في سجلات الأعمار والميتات وهي تُدوّن يدوياً في الوثائق الأرضية، التي تكنزها المُدن الكبرى في حصّالاتها المنيعة، في حين أن حياتهم الإلكترونية ستواصل حضورها وجريانها في النهر الهادر للعالم الرقمي، ستتعرض صورهم الشخصية للتكبير مرات ومرات. 
وسيتابع سُكّانُ الأرض، منشوراتهم الشخصية الأخيرة، وتعليقاتهم التي لمّا تزل طازجة في العالم الرقمي، وحين يُفتَقدُ أحد سُكّان (كتاب الوجوه) سنجد صفحاتهم الشخصية المحملة بالنصوص، والصور، والأمنيات، والأمزجة اللحظية، تواصل سباحتها في لَيل العالم الهرم، ستبدو عوالمُهم الشخصيةُ الإلكترونيةُ خالية من دفء التواصل، وجريان اللغة التفاعلية كتابة وترميزاً، وفي الوقت نفسه لن يكون بمقدور أصحاب هذه الصفحات المُحنّطة، التفاعلُ من جديد مع التعليقات والرقن النصي، سيغيب أصحابُها وتتحول وجوههم الرقمية إلى مجرّد خوارزميات باردة، تغوص عميقاً في فراغات الحياة الصاعدة نحو دفتر النسيان الأبديّ للحياة، وتتقادم حيواتهم التي أنهكها العيشُ، والانتظار، والترقب، وهي تتلمس ضفافَها النهائية في (كتاب الوجوه).ستنأى الصفحات المحجورُ عليها بنفسها بعيداً، وتتوغل في طيات الزمن، عابرةً نحو الضفاف المنسية، والحياة المُضاعة في سجلات الأحلام والأمنيات، ولربما سيتاحُ  لها أن تسبح في الأفق الافتراضي طويلاً وهي مُحمّلةٌ ببصمة الوَجْه الشخصي في لحظته القصوى، لحظة بزوغه الأخير، سترافق هذه الصفحاتِ المهجورةِ أصواتُ تحطُمات المدن المهيبة، وتهشماتٌ مُخيفةٌ تنبعث من أرواحها، وهي تصعد باتجاه الأمل الحسير، غيرَ عابئة بتسلسلات الحياة الأرضية، وخرائط الحروب الألفية، وهي تُستعادُ من تفاصيل المدن، والذكريات، والأسماء، والعناوين، والصور، وليس بمستغرب أن تواصل الصفحاتُ المهجورةُ صعودَها الرقمي المأتميّ، مثل جنازة غريبة، تُقاد في صحراء من الظلام العميم، ستتحرك الصفحات المهجورة خوارزمياً،  وتتسرّب من مجرى الكتابة البشرية، وتصل إلى حافَة العالم
الرقميّ.
وأنت تتصفح العالم الرقميّ الأزرق في (كتاب الوجوه) سيحدث أن تظهر أمامك إحدى هذه الصفحات التي غاب عنها مالكوها، فتحنّطت وبقيت صورُهم المتآزرة مع أسمائهم، وهي تحلّق في مجرات افتراضية، خالية من الحياة الدافئة، إلّا من بعض النقرات الإلكترونية السريعة، حاملة معها الكثير من وجع الحياة والوهن، والقليلَ من نُطف الأحلام، وظلالاً للسعادات المندحرة، ستبصر وأنت تتصفح هذه الصفحات، الأمنياتِ الحياتيةَ الغارقةَ وهي تهرول بين الوجع وبين الأحلام، وتدخل مرحلة يمكن تسميتها بمرحلة الأسى الرقمي، وفي هذه المرحلة ستكون الصفحاتُ الشخصيةُ المحنّطة إلكترونيا، سابحةً من حولنا في الفراغ الأسود العميم، سنحاول عدم الاصطدام بحافتها، وندفع بعالمنا الرقمي بعيداً عن حافة هذه الصفحات التي هجرها الدفءُ، ورحل مُلّاكُها الرقميون إلى تخوم مجهولة، سيشعُر سُكّان (كتاب الوجوه) بهذه الصفحات، وبالبرد المأتمي المنبعث منها، ستحاول هذه الصفحات الشخصية المجمدة، أن تجذب أحدَنا بقوة ضغط هائلة، وتسحبه من مجاله الأرضي، وترفعه عالياً ثم تحلّق به في ظلام هذا الكون المديد، ويحلّق في عدسة المصير
الرقميّ.
 سنحاول جميعاً الابتعادَ قدر الإمكان عن انحسار حياتنا الرقمية المرئية والدفينة، لكن ماذا لو أني جربتُ الانخراطَ في لُعبة تتبع هذه الصفحات المُحنّطة، ماذا لو قررت السيرَ خَلفها صحبةَ ايقاعاتها الجنائزية وهي تتوشح بالسواد حِداداً، سوف أنصت لأصوات البوابات الافتراضية وهي تُفتح وتُغلق، لائذةً بنرد الحياة المندحرة، وتقاطعاتِ المصائر، وها أنا ذا أصعد متاهات الموت الرقمي، مسافراً في ظلام الخوارزميات، صحبةَ الصفحة الشخصية لصديقي (عامر جميل) التي جمّدها المصير، وجعلها حياة مُدَّخرةً للظلام، والوحشة، والصمت، والعزلة، والألم، صفحته التي حُنطتْ في ليل الحروب، أبصرُها من بعيد وهي تتحرك، سابحة حول ساحل الحياة الرقميّة، تتحرك الحياة الرقميّة لصديقي، وتحشد خلفها آلاف الصور، والأسماء، والأحلام، والتقاويم السريّة للحياة المرئية والخاصة، فتتحول صفحته ذات الإيقاع الجنائزي إلى لوحة كونية، تمر ما بين المجرات والكواكب، راسمة خلفها مسارات غيابها الافتراضي، وها أنا ذا أتحرك صحبتها وفي إثرنا تتحرك آلاف الصفحات المحنّطة في ليل الحروب، تتبع آثارنا وخطوات الخارجين من تجربة العيش، صفحات تتبعها صفحات، تخرج تباعاً من نوافذ الحروب وخُططها، ومكائدها، وضحاياها، صفحات رقمية تخرج تباعاً من (كتاب الوجوه)، وتحلّق صحبة الوجوه الحسيرة لأصحابها، وتتشكل على وفق مسارات وامضة، تخترق ظلام الليل، وتنير طرق المصائر المقيمة في كتاب الوجوه.
 ها أنا ذا أمام المشهد المهيب، مشهد المصائر الرقمية، وهي تحتشد في مسارات ضوئية، تلتمع من بعيد كنجمة آفلة، في ليل العالم الطويل، وهو يصطدم بحافات المحو، ويذهب للحظة البلوغ القصوى، وها هي صفحاتهم الشخصية المُحنّطة، وقبل أن تبتلعها دوامات المحو تترجل عنها الأصوات والوجوه، والذكريات، والترحال، وحروب المدن، يتبعها المصيرُ الرقمي إلى حيث الحياة الجديدة في كتاب المحو، والنسيان، والغرق، ولكن قبل أن تذهب هذه الصفحات إلى حياتها الجديدة في كتاب المحو، ستسمع همهماتها من بعيد، وتسقط منها كل الأحلام وهي تتلاشى وتتحطم، في لحظة انجذابها العنيف لدوامات المحو، سَيُسمعُ صوت التحطُّم المهيب للصفحات المُحنّطة، ستتطاير الأسماء الشخصية، والوجوه المشرقة المُجمدةُ في ألبومات الصور الافتراضية، ستتبعثر الكلمات وتتفكك الجمل المدونة على حوائط الصفحات الشخصية، ستتحطم بشكل عنيف وتدخل كتاب المَحو، وقد تخلّصت من كل أعباء الحياة، وتحوّلت حياتهم الافتراضية الوضاءة إلى علامات أيقونية عالقة في قبضة النسيان، يتداولها سُكّان الكوكب الأزرق، وهم ينقرون على شاشات هواتفهم الذكية، ويمرون سراعاً على صفحات كتاب الوجوه أو كتاب المحو، لا فرق، فالنسيان الأبديّ مغروسٌ في مقدمة كل حياة، تتحركُ على سطوح
الصمت.