تعال نرسم أغنيةً في الهواء

ثقافة 2022/07/28
...

 طالب عبد العزيز
 
لا أظنّه سيمكثُ طويلاً في الترابِ، الجسدُ الذي ينوشهُ الليل وتهزمه النساء
لا أظنها ستفقد شيئاً آخرَ. هذه الروح التي تقرضها الاسئلة الصغيرة.
       * * *
لا النهر بتوقفه المفاجئ، ولا القاربُ المكفوءُ على ضفته، ولا أنا..
قادرين على تسمية الالم هذا، شيءٌ ما في الابدية عليه أن يقول كلمة.
  *  *  *
في المكان الآمن، خلف الآجام الساكنة، البليدة، إن رأيتني عائداً من هناك
لا تقل لي: لماذا، أو أين كنت؟ ولا تسألني عن الندوب التي بجبهتي!
يتوجب عليَّ التظاهرُ، بأنني لم أفقدْ شيئاً..
بما في ذلك قميصي، الذي كان وسادتها البارحة.
  *  *  *
الدُّمى البشعةُ في الحديقة.. تستفزُّ قطتنا البيضاء.
في الثياب، على حبل الغسيل، رائحةُ الذين غادروا البارحة..
قاطع التذاكر، في مقصورة القطار، يلهجُ بأسمائهم الآن.
  *  *  *
المزيد من الزنابق الحمر... تُفصح عن قبرِ طفلٍ في الجوار.
  *  *  *
يقول العاشقُ للشيخ: أترى الشجرةَ التي يثقلها الزهرُ؟
إن وجدتني تحتها نائما، مضمخاً بالآس والاهليليج، ما أنا ببائع العطور الحييِّ،
الذي تعرفه.. أنا الذي خذلتني أغصانُ الشجرة تلك،
وركلتني أقدامُ الصبابا النازلاتِ من حقول الكروم.
  *  *  *
أقصى الغابة، رسم أحدُهم شكلَ أغنيةً في الهواء. وبإصبعه الباردة حفر كلماتها على الثلج، الذي سقط مجنوناً البارحةَ، وغطى حقول القمح. لكنَّ الاغنية ظلت ترتفع مع أعمدة الثلج والدخان.. هي تحدثنا عن ذلك كلّه.. تلك هي القصيدة، التي أردتُ كتابتها، وأخفقتُ امسِ.
 *  *  *
أسقطت الريحُ زهورَ الخرنوب، والاكاسيا أيضاً، صار قميصُ الارض أصفرَ.
في غياب العنادل، لا يتوجَّب على الفاختة أنْ تصمتَ هكذا..
*  *  *
لكي تكتب قصيدة ناجحة، يكفي أن تكتب بيتاً واحداً في اليوم، ثلاثةَ أبيات في اليومين والليلة، سبعة أبيات في الاسبوع، أربعة عشر في الاسبوعين، إحدى وعشرين في اسابيع ثلاثة، ثلاثين بيتاً في الشهر الواحد. يقول الشاعرُ الأوَّل: ملكَ السماءَ، من حلقَ باثني عشرَ جناحاً.
    *  *  *         
الذين سألوا الاسئلة الكبرى، أصحابُ اليقين المطلق، أينهم؟ لماذا لا تظهرُ أسماؤهم إّلا في شاشاتِ أحلامنا الصغيرة؟
  *  *  *
يقول الناشرُ: لا تكتب الشعر. القرّاءُ يريدون حكايةً! ما الحكاية إن لم تكن قصيدة عن الطفولة قلت؟ إن لم تكن حذاءً أبيضَ وحقيبةً ملونة؟ تُكتبُ القصيدةُ حين يشعل أحدُهم عود ثقاب في العاصفة، وعندما تهتدي بنور قلبك الى سريرِ من تحبها في الظلام، وفي رشة العطر على معصمك قبل ذهابك للمقهى، وعند انتظار ابنتك العائدة من المدرسة، وحين تفلحُ بمسح الملح عن كأس النبيذ، وقد تأتي القصيدة بطعم آخر قبلة، قبل نفور زوجتك، غاضبة منك، وفي أول تجربة فاشلة، ليلةَ ضلَّ عصفورُك طريقه، ولم تبلغه مأمنه.
  *  *  *
في قطعة الضوء التي نبتت منزلاً، اقتسمتُ معه الرغيفَ، وقبضةَ البقدونس بالطماطم. سليل فلاحين أوفياء كان، أخرج آباؤه الأرض من البحر، وبجرادل صدئةً غمروها بالماء الفرات، ثم غرسوا النخل والسفرجل والاجاص. أحدِّثهُ بحديث الصَّاحب، علي بن محمد، في مختارته فيقول: الماءُ يشتجرُ مع الريح، أحياناً، وقد نختلفُ على لون الضجر في المساء.
  *  *  *
كان توماس ترانسترومير الذي مات قبل سبع سنوات، يقول: يحدثُ في منتصف الحياة أن يأتي الموتُ، ليأخذ مقاساتنا، هذه الزيارةُ تُنسى، وتستمرُ الحياة، لكنَّ الثوبَ يُخاطُ بلا علم
منا.