«الأنا» في الشاعر.. المسافةُ عبر الرائي الأول

ثقافة 2022/07/28
...

 كاتي رينتش 
 ترجمة: علي رحمن
في حوار ليس بالبعيد مع عدد من الكتاب من مختلف الأجناس الأدبية، انتبهت إلى أننا جميعا نكتب بضمير الرائي الأول “ضمير الأنا”، حسنا، بزيادة أو نقصان، في الخيال، نسمي الرائي الأول “الشخصية الرئيسية”، في الشعر نقول “المتحدث-speaker” ، في القصيدة، وفي النثر الواقعي غير الخيالي يكون اسم الكاتب، لأن “الأنا”، بحكم التعريف، تعود للشخص الذي يكتب. قد نطلق هذه التصنيفات كتصنيفات فقط للرائي (الشخص) الأول. 
الشخصية- character، والمتحدث -speaker، والكاتب-writer، هل ثمة فرقٌ حقيقي؟ 
أود الاعتقاد أن “الأنا” ذلك التركيب الواحد الرأسي الصغير، كان بسيطًا للغاية.
نظرا لأن الصوت عنصر أساسي في هذه الصنعة ، فإننا نشجع على الاعتقاد بعدم وجود مسافة حقيقية بين الأنواع.
بوصفنا كتّابًا، نستمتعُ بقوانين الصوت البسيطة لأنها تمنحنا الحدود. فثلاثة خيارات أمامنا: 
الرائي بالضمير الأول (أنا-I) أو ضمير الشخص الثاني (أنت- you) أو ضمير الشخص الثالث (He/she هو/ هي). 
ومع ذلك، لاحظت في قراءتي وكتابتي للشعر قدرة كبيرة على استخدام صوت الرائي الأول، وأصبحت أفهمه على أنه إشارة، وهي إشارة ممكنة في جميع أنماط الصوت الثلاثة.
مؤخرًا، انجذبت إلى جغرافيا إليزابيث بيشوب الثالثة (Farrar و Straus و Giroux ، 1971) والكيفية التي يخلق فيها صوت الرائي الأول المسافة بين صوت المتحدث والجسد والعالم الطبيعي والمكان. في صوتها الذي ما يكون بالغالب واقعياً، تبحر بيشوب في جغرافية مشهدنا البشري.
في هذه القصائد، أجد صانعًا ماهرا يستخدم الضمير الأول في جميع القصائد تقريبا - حتى تلك التي تبدو بملامح الشخص الثاني أو الثالث. تكشف هذه القصائد عن قدرة “الأنا” على خلق كل من الأُلفة والمسافة.
ليس مستغربًا في القصيدتين الأكثر شهرة في المجموعة، “في غرفة الانتظار” و “فن واحد”، حضور النسخة الأكثر حميمية من صوت الرائي الأول. 
“في غرفة الانتظار” ينتقل الصوت بين “الأنا-اللاحقة” و “الأنا-الحالية”. 
ومع ذلك، في هذين النمطين من الرائي الأول يكون الخلط حاضرًا بين الشخصيات الأخرى في القصيدة مثل العمة، والبالغين المنتظرين، وأثداء النساء “المرعبة” المعروضةِ في ناشيونال جيوغرافيك لتقودها تلك الأثداء إلى الانتقال المحوري للوعي الذاتي.
في المقطع الطويل الثاني (stanza)، تخلط بيشوب أولا بين هويتها الخاصة (صوت الطفل بصوت “الأنا -اللاحقة”) وصوت عمتها:
«دون تفكيرٍ على الإطلاقِ
كنتُ عمتيَ الساذجة،
 كنا أنا-نحنُ- ننهار، ننهارُ»
وفي مقطع آخر، تصل إليزابيث بيشوب إلى لحظةِ الوعي الذاتي: 
«لكني شعرتُ: أنكَ أنايَ 
أنكَ إيليزابيث 
أنكَ واحدٌ منهن»
تدعي بيشوب هنا صوت الرائي الأول. تكون هي «الأنا» و «إليزابيث»، وهي عضو مسؤول ومشارك في مكتب الطبيب، في المجتمع. صوت الشخص الأول في هذه القصيدة الذي يؤدي جهدًا أكثر من مجرد امتثال الشخصية. 
«الأنا» كهوية هي بناء من أجزاء مجزأة. إليزابيث هي إليزابيث، لكنها نفسها تكون نفسها الأصغر والأكبر سنا، وعمتها، والشاهدةَ والحاضرة. إنها الصوت الأول والثاني والثالث في الوقتِ نفسه.
الرائي الأول، إذن، يتكون من طبقات. في مجموعة شعرية، فتكون للكاتب الفرصة للاعتقاد بأن الأنواع الأخرى لا تستمتع بهذا. بسبب طبيعة القصيدة القصيرة، التي تمنح الكاتب تغيير مسافة الصوت، مما يخلق استخداما شاملًا وأكثر تعقيدا للصوت في جميع أنحاء المجموعة.
تتأرجح بيشوب في حميمية الرائي الأول بين القصائد، وفي أعماقها. حيث يوجهنا استخدامها للقوسين إلى علاقة أعمق بين المتحدث والشاعر، وحتى القارئ. على سبيل المثال، فإن صوت الرائي الأول الأقل سردية والأكثر جدلية في «فن واحد» يأخذنا إلى مدى سهولة فقدان الأشياء الحبيبة بدلا من التمسك بما نحب. 
في جانبها الحاد، كتبت بيشوب:
- حتى فقدانك أنت ( بصوتكَ المرحِ، وإيماءاتكَ الحبيبة) ولستُ أكذبُ، فذا جليٌّ 
فنُ الخسرانِ ليس العصيَّ على التعلمِ
رغم أنه يبدو (واكتبيها!) يبدو كالكارثة. 
هذه الجوانب هي التي تميز الشاعر عن المتحدث. الجانب الآخر ليس المتحدث فقط في القصيدة، أنه هو أيضا بيشوب، الشاعرة، التي تقدم نفسها «(اكتبيها!)» وإلحاحاتها الخاصة على الصفحة. بيشوب الشاعرة والمتحدثة متعددة الأبعاد، ومن خلال «الأنا» تتمكن من مناقضة ذاتها، لتخلق صوتا متنوعا وقصيدة محكمة.
إذا كان صوت الرائي الأول هو الأكثر حميمية، فيكون بسهولة الصوت الثالث هو الأكثر بعدًا، ربما يكون هذا سبب الأصداء الكبيرة التي تحظى بها القصيدة الشخصية. حيث يمنح الشكل الحرية للكاتب بتوظيف الشخصية مع إشراك الصوت الحميمي- وهذا أفضل ما في العالمين.
«كروزو في إنجلترا»، القصيدة الثانية في المجموعة، مكتوبة من خلال شخصية كروزو، وهي شخصية من رواية دانيال ديفو «روبنسون كروزو» عام 1719. مع هذا العنوان الدقيق والإلزامي، لا تخفي بيشوب نواياها ، لنفهم في الحال «الأنا» المستخدمة في هذه القصيدة كنسخة أبعد من تلك وظفتها في «في غرفة الانتظار» أو «فن واحد».
تفتح بيشوب هذه المسافة بعبارات مثل «تقول الأوراق» و «ربما»، والتي تشير إلى خبرة مترجمة. ومع ذلك ، فإن «الأنا» بدهشةٍ تؤكد نفسها في لحظات تبدو أقرب إلى لسان الشاعر من من كروزو. تكتب بيشوب:
الكتبُ 
التي قرأتُ 
كانت تفيضُ بالفراغاتِ
القصائدُ -حسنًا، حاولتُ 
تلاوتها على أسرّتي القزحيةِ، 
«الوامضةِ على تلكَ العينِ الداخلية، بالنعيمِ، أي نعيم؟ «
الذي حين نهضتُ لأولِ مرةٍ 
فتشتُ عنه.
حيث يبدو المتحدث، الأكثر اهتماما بفهم «النعيم» في القصيدة هو «الأنا» القريبة أكثر إلى الشاعر الفعلي من تجربة كروزو، لكن هذه الخطوة الطفيفة من شخصية كروزو هي التي تسمح لبيشوب باستعادة تجربته، لاستعادة «الأنا».
في الشعر الغنائي، أجد الاستحالة تقريبا في نفي الفردانية. القصيدة تحتفل بطبيعتها بـ «الأنا» حتى لو كان هذا الاحتفال من خلال الملاحظة. بيشوب تتجنبُ في بعض الأحيان الرائي الأول، لكنها تظهر خلف اهتمامها الدقيق بالتفاصيل. في هذه القصيدة ، تحضر «الأنا» ضمنيا.
كمراقب غائب في «الموظ - (غزال أمريكي)».
«The Moose”، تأخذنا بيشوب في جولة بالحافلة من الخسارة إلى البهجة، عبر المناظر الطبيعية، والمحادثة المسموعة. تحجب بيشوب “الأنا”، مما يقودنا في البدء إلى الخطأ في القصيدة على أنها صوت الشخص ثالث.
على أية حال، تحضرُ بيشوب لتأخذنا...
«على الطرق الحمرِ الحجريةِ،
أسفل أشجارِ القيقبِ السكريةِ،
مزارع الألواحِ الماضيةِ
وكنائسُ الألواحِ الأنيقةِ
تبيّضُ، بحوافها مثل الصَدَفِ،
توأم فضةِ شجرةِ القضبانِ الماضيةِ
حتى حينٍ لما بعد الظهر
حافلةٌ تسافرُ نحو الغربِ...»
يكاد يكون مستحيلاً التوقف عن القراءة، جمال لغة بيشوب والحنان تجاه الصوت يسحبنا عبر المناظر الطبيعية نحو أعماق القصيدة. حضور الراصد يكون حاليًا. بدون بيشوب، لن تكون هناك قصيدة.
لن نصل إلى اللحظة التي يعيق فيها الغزال الأمريكي سفر الحافلة على الطريق لتصف الشاعرة تجربة مشتركة من المتعة:
لماذا، لماذا نشعر
(بشعورنا كلنا) هذه الحلاوةَ
بشعورِ الفرح؟
تمنحُ بيشوب بذكاءٍ القارئ شراكةَ هذا الفرح، 
حضورها الضمني، ذلك الشخص الأول البعيد، يخلق مساحة للقارئ في القصيدة. «نحن» هنا هي هوية جماعية تشمل الشخصيات في القصيدة، والشاعر «على الرغم من عدم تقديم «الأنا» لنفسها أبدًا»، ونحن، القراء.
قد نفكر في الشعر في الشخص الثالث بكونه الشخص الخاطئ الأول. في الجغرافيا الثالثة، تحتفي القصائد الكثيرة بجماعية «نحن» أكثر من فردية الذات. ومع ذلك ، فإن القصائد التي تتركز عليها الأنظار المجموعة، «في غرفة الانتظار» و «فن واحد»، لتوليفها خلسة الرائي الأول، ونشعر كما لو أن بيشوب تمنحنا الدخول في لحظة حنونة وسيرة ذاتية عميقة. الآن عندما أفكر في صوت الرائي الأول، لا أكتب ببساطة «أنا» وأفهم ما تعنيه. تحتوي هذه الضربة الواحدة من لوحة المفاتيح الكثير من الاحتمالات والهوية والقرب والمسافة والاختلاف. كما أنني لم أفكر أن «الأنا» كانت تحوم في جميع قصائدي، من الشخص الثاني والثالث.في النهاية هو غموض «الأنا»، والدافع إلى إعادة تعريف هوياتنا وتفتيتها المستمر، ورعب الشعر الغنائي، هو الذي يعيدني إلى الصفحة، إلى القصيدة.
وكاتي رينتش هي شاعرة وكاتبة مقالات تعيش في مينيابوليس. تخرجت في جامعة مينيسوتا بشهادة ماجستير في الشعر في ربيع عام 2015. وهي المؤسس والرئيس التنفيذي لمكتبة SnailBooks الأدبية، وهي مؤسسة غير ربحية لمنح القراء الوصول إلى الكتب الصحفية الصغيرة. تم عرض مقالتها المصورة، “ذهن الشتاء”، بالتعاون مع جيس رييس، في مهرجان Altered Aesthetics السينمائي أيضا على تلفزيون مينيسوتا العام، شتاء 2015. كما ظهرت أعمالها في مجلة لونا لونا، ولوحة جامعة أيوا اليومية، وكتالوج مركز دي موين للفنون لعام 2010.