هل يتنازل الإنسان عن خياله؟

ثقافة 2022/12/28
...

  حربي محسن عبدالله


لا مبالغة في الزعم بأنَّ للخيال وجهاً خلاصيّاً، أو هكذا يتخيّل المرء في بعض الأحيان، وذلك بفضل قدرته الاختراقيَّة على مكافحة التخثّر والتشيؤ وجنوح الواقع إلى التسطيح والافتقار إلى النكهة المنعشة. 

فلعل مما هو صادق كذلك أن الخيال من النعم التي أنعمت بها قوة الخلق على الإنسان، إذ كيف يمكن المرء أن يتحمّل عبء وجوده المملّ بغير أخيلة تعمل على تسريح النفس من إسارها، كما يقول الناقد والكاتب يوسف سامي اليوسف في كتابه "الخيال والحرية- مساهمة في نظرية الأدب"، والكتاب صادر عن دار كنعان في دمشق. 

يؤكد سامي اليوسف في كتابه هذا على أن الخيال ما سمي كذلك إلا لأنه يتخلل الأشياء. 

يؤكد على فكرتين هما الصميم من نظرية الأدب: أما الأولى فخلاصتها أن النص الأدبي الجيد لا يسعه البتة أن يكون له وجود إلا إذا أقام نوعاً من أنواع التوازن بين الخيال والواقع، بحيث لا يطغى أي من الطرفين على الآخر فينحّيه جانباً أو يرغمه على الضمور، أو على الاضمحلال. 

فإذا ضمر الخيالي وطغى الواقعي، فإنَّ النص يصبح عرضة للدخول في واقعية فجة لا يسعها أن تنطوي على غير التسطّح الساذج العديم القيمة. 

وإذا أفرط الخيالي في الطغيان فضمر الواقعي أو اضمحل، فإنَّ النصَّ لا بدَّ له من أن يتحوّل إلى بنية جوفاء، أو لغة ناشفة وفقيرة إلى الروح الذي هو قوام الأشياء الحيّة كلها. 

يحاول هذا الكتاب الرامي إلى الإسهام في نظرية الأدب أن يوحي للقارئ بفكرة خلاصها أن الخيال الفني والأدبي هو صنف من أصناف الحرية فعلاً، لا لأنّه يأخذ الإنسان إلى حيث لا بؤس ولا ألم ولا صراع، بل لأنّه يُحرر الطاقات المركوزة في قاع النفس. 

ويوظفها في فسحة الفعل الحرّ القادر على الإبداع والخلق الفني.

ولكن العلاقة بين الخيال والحرية هي علاقة دائريّة، أو قل إنّها صلة تأثر وتأثير متبادلين، وهذا يعني أن الخيال يصنع الحرية تماماً، بقدر ما يتاح للحرية من فرصة لتصنع الخيال. 

ومن شأن مثل هذا المبدأ أن يفضي إلى أن قوة الخيال التي تسهم بتأسيس الحرية، تبقى بحاجة إلى الحرية كي يتمكن فعل التخيّل من أن يمارس الخلق  والابتكار.

من ألطف ما جاء في الكتاب هو وقوف الكاتب عند ما قاله الشيخ الأكبر ابن عربي.

يقول الكاتب إنَّ ابن عربي هو أول من حاول جادّا أن يؤسس أول نظرية في الخيال طوال التاريخ كله. 

وهذا إسهام كبير منه في نظرية الأدب نفسها، فقد رأى إلى الخيال بوصفه القوة الوحيدة الصانعة للحريّة، إذ صرّح ذات مرة قائلاً "إنَّ للخيال سلطة على المحال". 

والأهم من ذلك قوله "إن الخيال عين الكمال، لولاه ما فضل الإنسان على سائر الأحوال، وأنّه هو نعيم الناس وجحيمهم في آن واحد". 

في خاتمة الكتاب يتوقف "يوسف سامي اليوسف" عند وظيفة الناقد، وفقاً لما تقدم فيقول: (إنّها إصدار حكم القيمة الناضج، أو التمييز بين النفيس والخسيس، أو الفصل بين الماس والزجاج. 

ولعل في ميسور المرء أن يجزم بأنَّ مثل هذا الفعل هو نتاج لسمة ماهويَّة في العقل نفسه، إذ لا كمال بغير القيمة بتاتاً، بل إن الكمال نفسه هو القيمة التي هي غاية كل قيمة أخرى. 

أما استبار الفحوى المستتر، فهو على شدة أهميته، لا يحتل إلا المرتبة الثانية).