إيفان كرامسكوي.. المسيح في البريَّة

ثقافة 2022/12/29
...

 محمد طهمازي


"أستطيع أن أنفي كلَّ شيء في هذا الجزء من حياتي، الذي يعيش على حنين غامض، ما عدا هذه الرغبة في الوحدة، هذا الشوق إلى الحل، تلك الحاجة إلى الوضوح والتماسك. أستطيع أن أثبت بطلان كلَّ شيء يُحيط بي في هذا العالم، مما يُسيءُ إليَّ أو يسعدني، ما عدا هذه الفوضى، هذه الفرصة السائدة، والتساوي المقدّس المنبثق من الفوضى.." كامو وهو في بريَّة أبعد من أن تشابه أيَّ بريَّة، إنَّها بريَّة الروح!. 

"لقد رسمت المسيح في البريَّة بالدموع والدم". هكذا أدلى الفنان الروسي إيفان كرامسكوي باعترافه وهو يتحدّث عن اللوحة التي عمل عليها لفترة طويلة، كان يرسم التخطيطات ثم يمزّقها، باحثًا عن الدفقة اللازمة لخلق عمل عظيم. شغله موضوع إغواء المسيح منذ دراسته في الأكاديميَّة. كان المحفّز الأول هو لوحة ألكسندر إيفانوف "ظهور المسيح للشعب". تأثر كرامسكوي بشدة بهذا العمل. لقد كانت الفكرة أن يضع الناس في مواجهة مرآة أنفسهم فيجعل قلوبهم تطلق ناقوس الخطر. على مدى عشر سنين، كان يعود باستمرار لينغمس في رسم تخطيطات اللوحة، ثم أنتج نسخة العام 1867، بيد أنّه اعتبرها غير ناجحة. لقد احتاج لمعماريَّة في تحديد الزوايا الشكليَّة التي تظهر شخصية المخلّص مغمورا في الفكر. 

استوحى إيفان موضوع اللوحة من الإنجيل، الجانب الذي يحكي تجربة السيد المسيح في الصحراء، حيث اعتزل الناس أربعين يومًا بعد معموديته. إنَّ المسيح في رؤية كرامسكوي، مثل المسيح في بستان جثسيماني في جبل الزيتون في مدينة القدس الذي يعرف بأنّه المكان الذي صلَّى فيه يسوع في الليلة السابقة للصلب، لا يبدو كملك، بل هو شخص يعاني، قلق، وربما متشكك.

أراد كرامسكوي إظهار لحظة الاختيار الأخلاقي لهذا لم يستعنْ بعناصر أخرى غير شخص السيد المسيح، إذ إنّها هنا تجربة داخليَّة محضة. في الواقع، موضوع اللوحة هو حياة الروح ذاتها. في رسالة مشهورة إلى فسيفولود جارشين، قدّم الفنان توضيحات للوحة: "أرى بوضوح أنَّ هناك لحظة واحدة في حياة كل شخص تجلّت فيه روح الرب أو لم تتجلَّ، عندما يفكر فيما إذا كان عليه اختيار الطريق ذات اليمين أم ذات الشمال، هل يبيع الرب مقابل روبل أم لا يستسلم للشر؟" في هذه اللحظة والأفكار تحوم في قلبه وروحه وعقله اقتنص ذاك المشهد ووضعه في لوحة.

تكوين اللوحة يجذب عينيك إلى مركزيتها حيث وجه المسيح ويديه، جلسته التي تختزن الكثير من مشاعر الإحباط والحيرة.. إنّه إنسان تلفه الوحدة بعدما وجد كلَّ من حوله لا ينتمون إليه ولا ينتمي لهم.. إنّه عالم المصالح الذي يتخلى عنك لأجله من يدعون صحبتك وصداقتك وحتى أهلك.. العالم المادي الذي يحاصر المثل والأخلاق والقيم الروحيَّة ويخنقها.. على وجهه آثار الانكسارات الموجعة ممتزجة بتواضع واستسلام لمصيره. كأس الموت المرّة لن تمرَّ من أمامه، بل سيشربها حتى الثمالة. بعد طول تركيز في المنطقة المحوريَّة في اللوحة ستذهب عيناك إلى كلِّ شيء آخر مرسوم حولها حيث يسود الهدوء حطام الدنيا ومطامعها. 

يقسم خط الأفق اللوحة إلى عالمين: صحراء باردة بلا حياة في الأسفل وفجر صاعد في الأعلى. إنَّه وهج يوم جديد يعلن انتصار النور الذي سيقوم من قاع الحطام. تستقرُّ يدا المسيح المشدودتان بإحكام عند ملتقى العالمين، ومن التقاء العالمين السماوي والأرضي ستنشأ حياة جديدة. جرّحت الحجارة أقدام المسيح، كما لو أنَّك تلمس شيئًا يؤلمك. الأقدام الدامية تخبرك أنَّ مشارق الصباح سبقتها ليلة مشي من دون نوم، سير طريق طويل مضطرب عبر الظلام، لكن ها هو الفجر يلوح ونهاية الرحلة

اقتربت.

تعرض كرامسكوي لحملة انتقادات لعدم تقديمه المسيح بهالة من القداسة، "إنَّه حيٌّ للغاية ولديه مشاعر!" هكذا قالوا. بيدَ أنَّ هذا كان بمثابة الثناء على عمل كرامسكوي الذي قال وقتها ليس هناك ثلاثة أشخاص يتفقون على وجهة نظر واحدة عن 

المسيح.

وكما هي الحال في كلِّ زمان ومكان كانت الحاجة إلى رسم لوحات وفق الطلب باستمرار لإعالة أسرته تُعيق نتاج إيفان الإبداعي، وموت ولديه المحبوبين وصحّته التي أخذت بالتدهور بعدها. الفنان هو لوحة كبيرة يُعيق إكمالها، واقع الحياة وثقافات الدول 

والمجتمعات!.