خصوصيَّة فنِّ المسرح

ثقافة 2022/12/29
...

 عواد علي


التمسرح 

من الباحثين العرب، الذين استخدموا مصطلح “التمسرح”، الباحث المغربي حسن يوسفي في كتابه “التمسرح.. من الاستعارة إلى الخطاب”، ذهب فيه إلى أن التمسرح يُعدّ أحد أهم المفارقات الأساسية للفن المسرحي لأنّه يؤسس خصوصيَّة هذا الفن ويهدمها في الآن نفسه. ويعتقد يوسفي أن أبسط تعريف للتمسرح يتحدد بكونه كل ما له خصوصية مسرحية، سواء في النص أو في العرض، لا سيما أن مفهومه قد صيغ على غرار مفهوم “الأدبيَّة” بالنسبة للخطاب الأدبي، إلا أنه لم يعد قضيةً تخص المسرح وحده، بل أصبح يتعدّى حدوده المسرحية ليحقق تمظهرات مختلفة عبر خطابات متعددة منها ما هو اجتماعي– سياسي، ومنها ما هو علمي - معرفي، ومنها كذلك ما هو أدبي- فني. وانطلاقاً من هذه المفارقة يجد يوسفي أن تحديد تعريف موحد وشامل للتمسرح أصبح أمراً صعباً، وإن كان ممكنا إبراز تجلياته عبر الحركة والفكر واللغة الإنسانيَّة، وتجسيد تمظهراته عبر خطابات متعددة منها ما هو قريب من روح المسرح ومن مجاله التعبيري كالرواية مثلاً، ومنها ما هو بعيد عنها كالرياضيات مثلاً، وهنا تكمن مفارقة أخرى، حسب رأيه، إذ كيف يعقل ألا نستطيع تحديد تعريف للتمسرح مع العلم أنَّ بإمكاننا إبراز تجلياته المختلفة؟! 

 ويرى يوسفي أن للتمسرح جذوراً في الحياة الاجتماعية للإنسان، فالمتأمل للعلاقات الإنسانية بين الأفراد في مجتمع ما، وللخطابات الصادرة عنهم في وضعيات مختلفة، يمكن أن يخرج بنتيجة مفادها أن داخل الحياة اليوميَّة للإنسان أفعالاً مسرحيةً ومواقف دراميةً متنوعةً. وبقراءتنا لمختلف هذه الخطابات الاجتماعية نستطيع أن نؤكد أن للتمسرح، من الناحية الاجتماعية دلالات معينةً تتجلى في كونه يشير إلى الوهم والخداع والتقنّع وتغييب الحقيقة وتضليل الآخر.  

وإذا كان ثمة من يرى أن التمسرح موجود في النص، فإن الرأي السائد يبقى هو أنه لا يتحقق إلّا في العرض المسرحي، لأنّ النصَّ ليس سوى مشروع مسرحيَّة، في حين يتأسس التمسرح على الفعل الحي والمباشر في العرض المسرحي الذي يلتقي فيه المبدع والمتلقي.


المسرَحَة

أما الباحثة السوريَّة ماري إلياس فقد استخدمت لفظة “المسرَحَة” في دراسة لها، مؤكدةً أن مفهوم المسرَحَة حديث نسبياً، ظهر في القرن العشرين، لكنه لعب منذ ظهوره دوراً في تغيير النظرة إلى كل ما هو “مسرحي” بدايةً، ثم إلى كل ما ينتمي إلى عالم العرض، ومن ثم شمل مجالات أخرى منها الحياة الاجتماعية والحياة اليوميّة. ويبدو الأمر اليوم، كما تقول، وكأنَّ هذا المفهوم، بكل ما كان له من تأثير في القرن الماضي، أدى مهمته، فقد طوّر المنظور إلى عالم العرض الذي اتسع ليشمل كل الفنون، وكذلك البحث في التداخل بين فكرة العرض أو الاستعراض وبين الحياة بمفهومها الاجتماعي.

لكن إلياس ترى أنّ المفهوم لا يزال حتى اليوم مفهوماً إشكاليّاً لأنّه يمكن أن يُستبدل بمفاهيم أخرى قريبة منه، مثل مفهوم الإخراج أو غيره كالاستعراض أو العرض، أكثر وضوحاً برأيهم. 

وتشير إلى دراسات لباحثين مهمين، مثل الفرنسي باتريس بافيس وغيره، يرون أن المفهوم يمثّل حقبةً زمنيةً تميزت بالتأكيد على “خصوصيَّة المسرح”، ثم تجاوزت هذا الهدف، وأننا اليوم يمكن أن نتكلم عن “إخراج على الخشبة” أكثر من مسرحة، ويجدون في التعبيرين تقارباً في المعنى عندما يتعلق الأمر بالمسرح في الأقل. وهناك غيره مثل الباحث الفرنسي كلود إميه الذي، رغم اقتناعه بأهمية هذا المجال، يقترح اليوم تعبيراً أكثر شموليَّة، على حد قوله، هو تعبير “مسرحي” لأنّه يرى أن المسرَحَة شملت مجالات عديدة تجاوزت المسرح، وأن المفهوم الجديد يؤدي المعنى بشكل أفضل، لكن اقتراحه لم يلقَ صدى حتى الآن.وتؤكد إلياس أن النواة الصلبة التي يرتكز عليها تعبير “المسرحة” هو المسرح، فهو مشتق من كلمة “مسرح” في كل اللغات التي نعرفها، وأن التعبير في مجال المسرح يرجع اليوم إلى ما هو موجود على الخشبة، ويشكّل مقومات العرض المسرحي، وأننا اليوم نتكلّم بالنسبة للمسرح عن مسرَحَة معلنة أو مسرَحَة مضمرة، وهذا ما يسمح، من الناحية النقديَّة، بتحديد طبيعة نص أو عرض ما.

وبحث منظّر “التلقي” فولفغانغ آيزر في مفهوم المسرَحَة بوصفه مقولةً أنثروبولوجيةً، مبيّناً أن الامتناع الممسرح لإدراك الكائنات البشريَّة يتجلى من خلال خليط من الصراعات غير المتوقعة، والتي لا يمكن أن تصير ملموسةً إلّا عبر مجموعة اللعب بكامله. وهذا اللعب يتميّز بطابع لا نهائي لأنَّ عملية المسرَحَة تسمح بالحالة المستحيلة بطرق أخرى، إذ يمكن للمرء اختبار عدم قدرته على امتلاك ذاته. وفي مجال الأدب تجعل عمليَّة المسرَحَة الليونة الخارقة للكائنات البشريَّة قابلةً للإدراك. ولأنَّ هذه الكائنات لا تبدو أنَّ لها طبيعةً محددةً فإنّها تستطيع أن تتوسع إلى عدد لا يكاد يُحصى من الأنماط المحددة بالثقافة. وبما أنّه يستحيل علينا أن نكون حاضرين لأجل ذواتنا فهذه المسألة نفسها تصبح إمكانيةً للقيام بمسرَحَة ذواتنا إلى أقصى الحدود، إذ مهما اتسع المجال فأيّ من هذه الإمكانيات لن تحددنا على نحو كامل. ومن هنا يمكننا، حسب آيزر، أن نهتدي إلى هدف المسرَحَة الأدبيَّة. ويصبح اللعب، بوصفة بنيةً تحتيةً للتمثيل، القوة الدافعة وراء التصورات الوهميَّة للحياة الممسرَحَة.