حين تكتبُ المرأةُ قصيدَتَها

ثقافة 2022/12/29
...

 طالب عبد العزيز 


إلى البحر الذي لم نَرَهُ نمضي فرادى، إلى العلاماتِ التي لم تعدْ تُهدي أحداً، نسير فيوقفنا قمرٌ تصدَّعَ في المفازات.. المراكبُ تملأُ جيوبَنا بملحِ المكائن، وتبعثرُ السواحلُ آمالنا في كلِّ إيّاب، ومن القمراتِ الغريقة بالظلال والنيلوفر تدلّتْ أكياسُ الخيشِ، أشرعتنا غيرُ المسمَّاة في الفصول. تشنقنا حبالٌ نقترحُها.. ومن هناك، حيث لا يتعرّفُ أحدٌ على غنيمته، وتفرُّ المواسمُ خاسئةً بين يديه، على الحجارة التي لا تلين بالغربة، ولا تخضرُّ بالنأي، أعدكِ بأنَّ الفجرَ لن يمكثَ طويلاً، وأنَّ سلسلة الحديد، تطوّحُها الكواسجُ، ستكونُ مادةَ سهرنا الليلة. الصدأُ والقواقعُ والنجومُ المَيتةُ، تركةُ البحر الثقيلة، لا تفصحُ أكثرَ مما أعدك به.

سأمُلي على كاتبِ الحكاياتِ مصحفَ وقوفي على بابك، ولأنّني ما زلتُ في خبيئة الأمس، سأمزِّقُ قراطيسَ كلِّ ما كتبتُ، وتصفّحتُ أمامَه، ولأنّني، في ذهابٍ إليك، وعودةٍ منكِ ما حَييت. سأسمّي أعمدةَ الشارع، ما أظلّني منها، وما رغبَ عنّي، فظلَّ عموداً. لم يأخذْ أحدٌ بيدي إليك، وما دلّني فلّاحُ المسافاتِ على مخارج الريح، ولا أدخرتُ لكتيبةِ بابِ دارك جناح الهدهدِ، حيثُ اصطدتُ وذبحتُ.. لهذا، تنتهكُ هجنةُ السؤالِ غباءَ الإجابات، ولهذا أقول بأنَّ النساءَ إلّاك، في جلباب المعنى مازلن يأتين ويذهبن، أو يخرجنَ وحيداتٍ من منازلَ لا يلهو الصبيةُ عند شبابيكها، وسواءٌ أكنَّ مثنى وثلاثاً ورباع، فقد غُمَّ عليَّ من فساتينهن الكثير.  وحدي، سأرسمُ على اِسفلتِ الذِّهابِ بعضَك، وعلى عُشبةِ الايَّابِ أكثرَهُ، فلا تحدثينني عمّا أُهْمِلَ على الجسر من أسمائك، وما تعصَّفر في الثياب.

ملحوظة لا بدَّ منها: 

ربما، تصحُّ المقدمةُ الطليليَّةُ هذه مدخلاً، لقول شيءٍ ما. فقد حدثَ أنْ كتبتُ قطعةً، هي من متطلبات مادتي في الجريدة، هي ما دأبتُ على كتابته في الأشهر المتبقية من السنة، لكنَّ امرأةً تحرِّمُ على نفسها قولَ الشِّعر، فهي تتنفّسُه حسب، أخذت القطعةَ، ونسجت من أحرفها قصيدتين، فكانتا. لا أنسبُ أيّاً منها لي، ولا تقبل أن أنسبها لها، وبين حاجتي لنشرها ورغبتها في طلسمةِ اسمها، وجعله لغزاً، ارتايتُ ألا أضعَ اسماً لأحدنا.

  

القصيدة الأولى  

صباحَ الخير: قلْ لقميصِكَ الشَّتويِّ، 

وأنتَ تُخرجهُ من الحقيبةِ الباردة. 

ولكلِّ مَنْ حولِك، من تتذكرهم الساعةَ: 

صباحَ الخير للجميع. 

فالغدُ لوحٌ أسودُ، لم يَكتبْ عليه أحدٌ بعدْ. 

          ** 

اِنتظرُ من يَطرقُ البابَ برفقْ، 

من إذا تأخرتُ عليهِ أزاحَ السِّتارةَ 

وتطلَّعَ بما اشتجرَ وتشابكَ، 

باحثاً عنّي في ثنايا التربةِ الليّنةِ.

علّمتني السَّواقي المُترعةُ 

أنْ أقصدَ بمائي من أرادَ أنْ يكونَ شجرةً 

وظنَّ بي جردلاً ... فتأمَّلَ جِذعهُ شجرةَ آس، 

أنا ماؤهُ المَظنونُ به، المقصودُ في السيرِ اليه 

وَيَنعهُ المُرتجى..

         * * 

أنْ تكونَ شاعراً.. هو أنْ تكتوي برمضاءِ غربتكِ مراراً 

وأنْ تحمِل تحتَ جناحيكَ رغبةَ الإوزِ الأبديّةِ بالطيران 

وأنْ تكررَ وقوفَك في الشرفاتِ النائيةِ 

منتظراً شيئاً ما ... وإنْ لم يأتِ أبداً.

وأنْ تختارَ الظِّلَ ترفّعاً 

حين تقفُ، وتخذلكَ منابتُ الضوءِ. 

 ذلكَ، لأنَّ الشِّعرَ ترابٌ بكرٌ

لا يُهْتدى إليه بقين، ولا يُستدرجُ بالتراتيلِ 

وهو النَّدمُ المتحققُ في اللقاء، الذي ظلَّ لقاءً ..

باقةُ الورد التي سقطت في الطريق الى محطَّة القِطار 

وهو الأبديَّة تمدُّ يدَها لمن لم يبتدئ بعدْ. 

هذا المنسيُّ، الذي ما زالَ يبحثُ في الأرففِ 

عن اسمٍ له.

 

القصيدة الثانية 

 أيَّتها الشَّجرةُ المكسوّةُ بالنأيّ، المتدثرةُ بالغياب

أنشدُك ماتبقّى من النَّهار

أدعوكِ لوليمةِ النسيان، زادي في الليلةِ المُوحشةِ هذه

تعبتُ أدعوكِ، وأنتِ منفى.. 

وهذا صمتُك بالغٌ، لكأنّكِ خاتمةُ الليل

أقف، حيثُ يؤبّدني الانتظارُ.

         * *

لو أحصيتُ الدمعَ لأغرقتُ أوديةَ مَنْ حولي

لو فرّقتُ زغبَ الكلماتِ على الأديمِ لوسعتُه

لقد تمادت الأحرفُ التي وأدتُها 

أنا خلاصةُ حيث لا خلاصة تُجدّي!

صائحُ العربةِ الوحيد.. هذه البريّةَ آخرُ مَقاتلِي

أتذكّركُ عطراً، واستردك جسداً، جسراً 

مازلتُ عند خاصرته.. أتفادى القضبانَ 

تنّورتكِ سوداءُ، وحذاؤك أبيضُ

العابرُ الذي لا يراه أحدٌ أنا،

تنبحُني مركباتُ الأمل، فألتفتُ.

كلُّ قفصٍ أنا طائرهُ، وأنا زائرُ كلِّ فجيعة

ياءْ، سين، ميم، ميم  

إلى مَ أعْجِمُ اسمكِ في كلِّ كتاب

وأطلسِمُك في كلِّ معنى وإجابة 

وهذا النَّارنجُ، تتخطفُني أصابعُه.

فتصنعُ من الصمتِ قصائدَ لا أقرأها 

تكتبُ الليلَ أغنيةً لوسادةٍ خاطئة.

تعالي: أفقٌ لخطوتِك النَّهار، 

بابٌ من مدائِحك المطر.