الشعرُ والرسمُ: سيمياءُ اللغة وفضاءُ الصورة

ثقافة 2022/12/29
...

 محمد صابر عبيد


يتجلّى الشعر بوصفه نشاطاً إنسانيّاً إبداعيّاً خلّاقاً مع الرسم بوصفه نشاطاً إنسانيّاً إبداعيّاً خلاقاً في مسلّة الفنون ضمن هذا التصوّر على أنّهما توأم، لا سبيل لأحدهما في حياة جميلة قادرة على التأثير في الماحول الجماليّ والدلاليّ من دون الآخر، وقد حصلت هذه التوأمة منذ أن عرف الشعر طريقه إلى القلب بلا وسائط؛ وعرفت اللوحة طريقها إلى العين بلا حدود، وما بين القلب والعين من تآمرٍ ساحرٍ يجيب عن أسئلة العلاقة كما ينبغي، ولا سيّما حين ترتبط العين مع القلب في جذور أساسيّة يرسمها العقل المتلقّي ذو الطبيعة التشكيليّة الجماليّة الواعية.

تحصل أعلى درجات الاحتفاء المشترك بين الفنَّين حين يقيم الفنان التشكيليّ احتفاليته في ظلّ الشعر؛ ساعياً إلى الأخذ من مَعينهِ ما وسعه ذلك في أكثر من سياق وأكثر من محاولة وأكثر من سبيل، وعلى هذا النحو فإنّه يحوّل الأفعال الشعريَّة في قصائد الشاعر إلى التماعات لونيَّة تتحرّك تحرّكاً دراميّاً تشكيليّاً على سطح اللوحة، مثلما تحوّل الأسماء الشعرية إلى خطوط وكتل وتمظهرات بصريَّة تناظر حركة الأفعال وتتوافق معها، في السبيل نحو بلوغ مرتبة قصوى من التفاعل الضمنيّ يسحر التلقّي وينقله إلى حالة مثاليّة من الانفعال، توقد في داخله حماسة منقطعة النظير إلى مزيد من الاندفاع نحو الانفتاح على ما يلوح من آفاق.

يلتقط الفنّانُ التشكيليّ الصورةَ الشعريَّة في القصيدة ليصنع منها فضاءً تشكيليّاً مشحوناً بتنازع الوجود والحضور والتألق بين انبثاقة الكلمة وضربة الفرشاة، بين الدالّ الذهنيّ الضارب في متاهة الوجدان بأعمق تجلّياته؛ والمدلول البصريّ الساخن الذي يحتاج إلى مستوى عالٍ من الانفعال الكليّ والمطلق بين الرائي والمرئي. ثمّ بين العلامة الرمزيّة وهي تتجوّل في مساحة سيميائيّة كافية للتعبير عن جوهرها، والمعنى التشكيليّ المجسَّد في طبقات اللوحة على هيَّأة ألوانٍ وكُتَلٍ وفراغاتٍ وخطوط وتشكيلات مختلفة.

يلتقط من موحيات الصورة الشعريّة في القصيدة تموّجات دلاليّة بين خطاب البيان المتخيّل في أجواء القصيدة، وخطاب المساحة الظاهر على قدرٍ من التحدّي البصَريّ في فضاء اللوحة، بين لغة الحرف في الغوص داخل مرجعيّة معجميّة ونحويّة وصرفيّة وبلاغيّة شديدة الاشتباك، وحساسيّة الصورة التي تذهب نحو قمّة الإحساس بالأشياء داخل مرجعيّة تشكيليّة وثقافيّة ورؤيويّة شديدة التماسك والصيرورة، بين التلقّي المؤجّل في طبقة معيّنة من طبقات القراءة ومستوياتها، والتلقّي الراهن القائم على حرارة الانفعال بمساحات اللوحة المرئيّة أو الخاضعة للتأويل والقراءة التأمليّة النافذة، بين توتّر المفردة في تدفّقها الشعريّ على بياض الورقة، ودفء الريشة وهو يقتحم مناطق اللوحة وينشر الفرح والبهجة في تفاصيلها وحيثياتها.

تقود القصيدة أصابع الفنان الرسّام نحو أرض تشكيليّة خصبة مملوءة بالماء والطين والبكارة والحلم والحبّ، كي يمتلئ الماء بالعاطفة، ويُشحنَ الطينُ بالرغبة، ويَخترقَ اللونُ الحارُّ بكارةَ الأرض نحو أفق الحلم، فتنطق اللوحات بما اختزنته القصائد من ألمٍ تقنّعَ به القمر وحمل الطبيعة والتجارب البشريّة بين ذراعيه، وما اختزنته من ولعٍ خفيّ تذرّعت به الشمس في نورها ودلالتها على الآتي من الأمنيات.

يمرّر الشاعرُ وجدانه الغامض على أصل الكلام بمرجعيّاته المكتظّة بالمعاني والدلالات والقيم والاحتمالات؛ فتبوح القصائد بأسرارها على سطوح اللوحات وتقطّر معانيها على شكل ألوان وخطوط وتفاصيل تتموّج بريقاً في عيون التلقّي، وتحوّل الابتسامات في حاضنة اللغة الشعريّة إلى ضحكات واسعات في تدافع الضوء نحو ظلمة اللوحة، ومن ثمّ ترتقي هذه القصائد سلّم المعرفة درجةً درجةً كي تنتقل بالنظرات العابرات إلى لقاءات حرّة على موائد الألوان، وتدفع الوعود الخائفات في النفوس المرتابة إلى حقائق جريئة تكشف معدن المعنى وسيمياء العلامات الغاطسة في الأعماق. 

تعمل اللغة الشعريّة على تحريض الحروف الغافيات فوق بياض الورقة كي تعيد إنتاج ذواتها اللفظيّة على شكل انطلاقات لونيّة باهرة في جواهر اللوحات، ودفع ظلال الهاجس الذاتيّ العذب الحامل للتجربة الشعريّة ليتردّد صداه الآسرُ بين أمواج الشعر في القصائد من جهة، وعواصف التحوّلات التشكيليّة داخل فضاء الرسم في حركيّة اللوحات من جهة أخرى، إلى الدرجة التي يلتحم فيها طرفا التوأم ضمن حاضنة واحدة في أصابع الفنّان التشكيليّ المرهفة؛ وتطلّعات الشاعر المرسومة بقوّة ووضوح في سواد الكتابة على بياض الورقة، حينها يدنو الربيع من وجوه التلقّي الباسمة جميعاً ليعلن بدء احتفالية الحروف الملوّنة في بيت الحبّ، وإطلاق صوت الشاعر مقترناً بصمت الرسّام في جدليّة استثنائيّة لا تفرّق بين الكلمة واللون، ولا بين المعنى والفراغ، ولا بين سيمياء اللغة وفضاء

الصورة.