بلادي الضائعة.. مرثية للوطن المفقود

ثقافة 2023/01/02
...

عدنان حسين أحمد
لا يعتمد الفيلم الوثائقي "بلادي الضائعة" للمخرجة الكوستاريكية- التشيلية- العراقية عشتار ياسين غوتيريس على نص مكتوب أو معالجة سينمائية لسيناريو معد سلفا. وهنا يكمن التحدي الأول لأنها تريد من المشاهد أن يستشف من حياة أبيها الذي ظل منفيا طوال 44 عاما قصة هذا الفيلم الشاعري الذي يتحرك بإيقاع بطيء لا يبعث على التأفف أو الملل، مذكرا إيانا، في جانب منه، بالسينما البطيئة التي تحفز على التأمل والاستغراق الذهني الممتع. لابد من إحاطة القارئ علما بشخصية المخرج المسرحي العراقي محسن سعدون ياسين التي تدور حوله قصة هذا الفيلم البيوغرافي الذي يركز على الواقع بذكرياته الحيّة، ويلامس الخيال بتجلياته الشاعرية في الوقت ذاته.



فالمخرج محسن سعدون من مواليد بغداد سنة 1932م. التحق بمعهد الفنون الجميلة سنة 1960م. ثم واصل دراسته بقسم الإخراج في معهد الدولة للفنون المسرحية بموسكو، وحينما عاد إلى العراق عُيّن أستاذًا في معهد الفنون الجميلة ببغداد، وأخرج مسرحية "حُلم ليلة صيف" لوليم شكسبير، ومسرحية "في القصر" لفيرنيك مولنار، واضطر بعدها لمغادرة العراق، والعمل في أقسام الفنون المسرحية في جامعات تشيلي والإكوادور وكوستاريكا. 

أخرج في سنوات غربته العديد من المسرحيات نذكر منها "الملك يحتضر" ليوجين يونسكو، و"البرجوازيون الصغار" لمكسيم غوركي، و"الزوجة اللعوب أو جورج داندان" و "الطبيب رغمًا عنه" لموليير، و"طائر النورس" لتشيخوف"، و"الليالي البيضاء" لدستويفسكي وغيرها من المسرحيات الذائعة الصيت التي لم يرها الجمهور العراقي وكأنّ هذا المنجز الثقافي قد أصبح ضائعًا هو الآخر، وإنّ المخرجة عشتار ياسين تبذل قصارى جهدها بغية رسم صورة حقيقية مُحبّبة لحياة والدها كفنان وإنسان في آن معًا متتبعة إياه في حِلِّه وترحاله بواسطة ألبومات الصور العائلية، وملصقات المسرحيات التي أخرجها، وقُصاصات الصحف التي نشرت أخباره، والرسائل التي كتبها لأهله وأصدقائه ومحبّيه، والتسجيلات الصوتية لبعض لقاءاته الفنية والثقافية والاجتماعية.

كما تشمل هذه المتابعة تصوير والدها في أمكنة وأزمنة متعددة مُركزةً على ملامح وجهه، وحركات يديه، وعلى قصصه التي يرويها بهدوء كبير وهي تنطوي حقًا على كثير من الأسى، واللوعة، ووجع الفراق.

لا يمكن مُشاهدة فيلم "بلادي الضائعة" من دون أن نستحضر فيلم "مرآة" لأندريه تاركوفسكي الذي يتكئ على سيرة ذاتية فضفاضة لوالده الشاعر أرسيني الذي دبّج العديد من القصائد وقرأها في مناسبات عدة. 

كما يعتمد الفيلم على ذكريات الطفولة، وأحلام الصبا والشباب، والأحداث التي يستمدها المخرج من نشرات الأخبار التي تحاول أن توثّق كل شيء تقريبًا. 

تقول عشتار عن فيلمها المفضل (مرآة) "أحب هذا الفيلم لأن تركيبته شاعرية.

لا يوجد صوت سردي، إنه يحتوي على لحظات من حياة تاركوفسكي، وذكرياته وشعر والده أيضًا".  

ومثلما يحتاج هذا الفيلم إلى متلقٍ عضوي وفاعل فهي تُطالب مشاهدي فيلمها أن يشحذوا مخيلتهم "للحصول على تفسيرهم الخاص لأنها، هي نفسها "كانت تحاول العثور على الفيلم داخل الصور" والكتالوغات، واللقطات، والأفلام المنزلية لإحياء قصة والدها من جديد.

يتضمن متن الفيلم قصصًا ومواقف متفرقة نتوقف عند البعض منها، فالأب مولع بسماع الأغاني الفولكلورية القديمة التي يردّدها كلما عنّت في باله.

كما تُذكِّرنا المخرجة ببعض أعماله المسرحية التي أخرجها من بينها مسرحية "حُلم ليلة صيف" لشكسبير و "حافظ الوعود" لدياز غوميز التي يروي أحداثها بشكل مختصر. الغريب أن المخرج محسن سعدون قد هرب من دكتاتورية صدام حسين إلى أميركا اللاتينية بحثًا عن الحرية والعيش والكريم لكنه وقع في قبضة الدكتاتور أوغستو بينوشيه الذي أسقط الرئيس التشيلي سلفادور ألليندي، فهرب إلى الدول المجاورة قبل أن يستقر في موسكو.

وثمة مَشاهد لقصف قصر لا مونيدا وبعض المناطق الحيوية في العاصمة سانتياغو. تتضمّن ذكريات الأب الاسترجاعية موقفه الثابت من أميركا التي ساعدت بينوشيه في انقلابه وأوصلت الإنسان الخطأ إلى سدة الحكم، وغزت العراق وتركتْهُ بلدًا مُدمرًا بعد أن أججت فيه النزعة الطائفية واستدرجت إليه معظم الإرهابيين في العالم. ويختم حديثه بالقول: "أتمنى لو إنهم اختاروا الشخص الصحيح لمرة واحدة فقط"!

لا يستغني الفيلم عن بعض قصائد الجواهري مثل قصيدة "يا نديمي" التي يقول فيها: "يا نديمي: وصُبَّ لي قدحا / وأعرني حديثَك المرِحا"، ثم نعاود الاستماع إلى أغنية تراثية قديمة للفنانة لميعة توفيق التي يقول مطلعها "هذا الحلو كاتلني يا عمّه / فدوة أشكد أحبّه وأردْ أكلْمه" قبل أن تأخذنا المخرجة في جولة ممتعة في المتحف الوطني العراقي لتستدعي الماضي البعيد جدًا ثم تنحرف بنا إلى أعمامها وكيف دهمت العناصر الأمنية الصدامية منزل العم رسول وخطفت أولاده الخمسة ومنعت عنهم زيارات الأهل والأقارب.

يحفل الفيلم برسومات الواسطي، والمنحوتات السومرية القديمة، وبعض الطقوس السحرية التي تمنح القصة السينمائية نكهة خاصة. ورغم أن الفيلم مكرّس لوالدها إلاّ أن المخرجة لها نصيب في التعريف بتجربتها السينمائية، والبحث عن جذورها الاجتماعية في العراق وتشيلي وكوستاريكا. فأمها التشيلية-الكوستاريكية وراقصة الباليه إيلينا غوتيريس هي ابنة الشاعر والروائي الكوستاريكي خواكين غوتيريس صاحب "سوف نعود"، و "سجلات من عالَم آخر"، و "الأيام الزرقاء". ومثلما ينطوي الفيلم على خطاب الرئيس التشيلي سلفادور ألليندي نسمع خطابًا لعبدالسلام محمد عارف. وفي موضع آخر من الفيلم ثمة مسابقات شعرية تستهدف المشاعر والأحاسيس الداخلية للمتلقين، ورسائل متبادلة بين الأب وزوجاته الثلاث اللواتي تنقّل بينهن تباعًا وعاش حياته الخاصة التي توزعت بين أربع قارات، لكن قلبه ظل متعلقًا بالعراق وذاكرته المتوهجة ترفض أن تغادر أرض الرافدين. وقبل أن نختم لا بد من الإشارة إلى أن عشتار ياسين هي ممثلة، وكاتبة سيناريو، ومترجمة أفلام وجدت نفسها في الإخراج السينمائي فأنجزت عددًا من الأفلام القصيرة والطويلة نذكر منها "فلورنسية ذات الأنهار العميقة"، "الشجرة الصفراء"، "المنضدة السعيدة"، "اللامرئيون"، "أغاني الجدة"، و"الطريق".