المسرح بوصفه جبهة ثقافيَّة

ثقافة 2023/01/02
...

 أ. د. باسم الأعسم


 قد تختلف في الوسائل والأدوات، ومقاربات المخرجين والمؤلفين والمصممين والدراماتورجيين، لكنَّها تتفق في الغايات الإنسانيَّة والجماليَّة على مرِّ العصور، ما دام الإنسان هدف الفن، والحرية أداة الفنان في التعبير عن ذلك الهدف الجميل والجليل، منذ كلاسيكيات المسرح وحتى حداثاته. 

ولتحقيق ذلك الهدف السامي، تشاد المسارح في فضاءات المدن والعواصم لإشاعة الثقافة والفكر والفن والإمتاع، ومن ثم تمتين عرى التلقي والاستقبال بين جبهة المسرح، وبين الجمهور المتعدد والمتنوع الذي يشكل قاعدة الفنان والمسرح في الآن نفسه.

إنَّ الوقفة التي عبر من خلالها الممثلون في دائرة السينما والمسرح عندما تناهى إلى أسماعهم هدم مسرح الرشيد، عبروا من خلالها عن دفاعهم المستميت عن رسالة المسرح، وعن مسرح الرشيد بوصفه جبهة ثقافيّة وفنيّة تديم صلات المسرحيين بجمهورهم ووطنهم، عبر أداءاتهم وخطاباتهم الفكريّة، متخذين من الحوار الشائق، والجدل البناء، ركيزة في الشروع باتجاه إرساء منظومة قيميَّة تتخذ من خطاب المسرح وسيلة لإصلاح ما فسد، وتحريك ما ركد، منذ البدء والى الأبد، وان إعمار المسارح يمثل تدعيماً لجبهة المسرح وكذلك الحراك الناشط للمؤلفين والمخرجين ونقاد المسرح يفعل الخطاب النقدي لجبهة المسرح ويسمو بها.

ولذلك، إذا لم تكن الثقافة والفنون التي يتصدرها المسرح، جزءاً من دستور البلاد، وتنظم إدارتها بقوانين، وقرارات تعظم شأن الثقافة والمثقفين والفن والفنانين، وتعمر البنى التحتية الثقافيّة وتدعم بما يفعل الحراك الثقافي والمسرحي، فلا أمل يرتجى في استتباب الحراك الثقافي والمسرحي، ما دام المسرح مدرسة الشعب، وما دمنا نحيا في قلب العالم وليس في الربع الخالي، أي في عزلة موحشة، وندرك عن وعي ما فعله ويفعله الإعلام والفنون في ماضي وحاضر الشعوب، والمسرح أبو الفنون، وجبهة إعلامية وثقافية خطيرة وهائلة، وطالما كان للمسرح العراقي القدح المعلى في مواكبة الأحداث ورصد الأزمات ونقدها، إذ حاز على الصدارة في الدفاع عن الحريات، والحقوق الإنسانيّة المشروعة منذ نشأته وإلى الآن.

ولقد كانت نصوص يوسف العاني، وعادل كاظم وجليل القيسي، ومثال غازي وسعد هدابي، وعلي عبد النبي الزيدي، ومحي الدين زنكنة، شاهداً على مؤازرة المسرح للشعب وقضاياه المصيريَّة ومجابهة الحروب، والحصارات والفساد، انتصاراً لقيم الحق والعدالة والسلام. 

ولعمق جذورها الغائرة في حيثيات الواقع، وشساعة مساحتها، وقوة تأثيرها، فإنَّ جبهة المسرح التي تضمُّ بين دفتيها رسل الثقافة الإنسانيَّة، تعدُّ أشدّ الجبهات الاتصاليَّة والإعلاميَّة، تأثيراً على المجتمع، بحكم اتصالها المباشر بالجمهور، وسحرها المبين، وخطابها التنويري بما يتضمنه من فكر وجمال وأخاء، تشكل بمجموعها عناصر جذب فاعلة، وإلا بماذا نفسّر استمرار تقديم العروض المسرحيَّة المتنوعة على طول السنة، ضمن نظام (الربرتوار المسرحي) في العالم أجمع؟!

أو استمرار عرض مسرحي لسنوات عدة؟! ومجيء الجمهور لمشاهدة العروض المسرحية على الرغم من هشاشة الأوضاع وخطورة الوضع الصحي في فترات معينة؟! وبماذا نعلل استحداث معاهد وكليات فنون تدرس المسرح؟! ألم تدلل تلك الوقائع على ضرورة المسرح، وجدواه، وفاعليته في المحيط السياسي والاجتماعي والتربوي؟!

فضلاً عن ذلك، أن المسرحيين يتخذون من خشبة المسرح وسيلة ولا أجمل، ولا أبلغ لإعلاء شأن الحريّة، ونقد معرقلات السلم المجتمعي، ومن ثم التمرّد الواعي والمعرفي على لا معقوليّة الأوضاع الإنسانيّة، بوساطة الفعل الثقافي، الذي يصدم الآخر برجاحته، وقوة حجته، مادام يخاطب العقول، ويهذب النفوس، فيصحح التوجهات والأفكار الخاطئة فيقومها، وتلك هي بعض الأهداف السامية للمسرح، بكونه جبهة ثقافيّة ومعرفيّة، وتربويّة، تؤازر الجبهات الأخرى، للارتقاء بوعي الناس، وتنمية أذواقهم ومدركاتهم، ومن ثم المساهمة في توجيه الرأي العام، والاحتجاج ضد القبح والفساد لإرساء أسس التنمية الثقافيّة التي تعد العامل الأساس في الارتقاء القيمي والتنموي والثقافي. لذلك، أن تزايد البنى التحتيّة (الثقافيّة والفنيّة) وفي مقدمتها: المسارح، يعد خطوة جريئة مباركة، وظاهرة إيجابيّة تعكس ثقافة النظم السياسية وتحضرها، إذ لا تخلو أصغر مدينة في العالم المتحضر من صروح فنيّة وثقافيّة تعنى بالمسرح بأنواعه كافة، وكذا الحال بالموسيقى، والسينما والتشكيل، بوصفها مغذيات العقل الإنساني، كما الحال في مصر وفرنسا وبريطانيا وأميركا وبلجيكيا التي يوجد فيها (97) مسرحاً. 

ولم يكن (تشرشل) بطراً أو مرائياً، عندما فضَّل مؤلفات شكسبير على المستعمرات البريطانية، ولكي يأخذ المسرح مدياته التأثيريّة تخصص له أموالاً طائلة ما يكفي لدعم جبهة المسرح بمنصّته المقدّسة، نظراً لما يطرح من خلاله الأفكار التنويريّة، والرؤى الإصلاحيّة التقدميّة، على وفق مقاربات جماليّة، وان عظمة المسرح تأتي من وثاقة ارتباطه بوعي الناس، ومصائرهم، وأذواقهم، وتطلعاتهم، بغض النظر عن اختلاف عقائدهم وجنسياتهم، فالمسرح ملك الإنسانيّة ومشاع للجميع ولعل أسمى خصائص جبهة المسرح، مجابهة التطرّف والتخلّف والعنف والإرهاب، وهذا امتياز يحسب لصالح المسرح بوصفه جبهة ثقافيَّة وإعلاميَّة هائلة، وعليه، فإنَّ تشييد المسارح يشكل جبهات فنيّة تستند إلى الفكر والفلسفة والمعرفة والفن، مع يقيننا أنَّ المسارح كالمساجد لا يعمرها إلّا من آمن بالله.