المرأة من الوجود إلى الجسد

ثقافة 2023/01/02
...

 موج يوسف


إن الكاتب عزل صوته، وأصوات الأبطال الرجال ــ ليس عزلاً كلياً ــ وفتح أبواب السرد لصوت البطلة، وسبق وأن قلنا إنَّه اتكأ على المنولوج الداخلي، فلم تثر سما على أفكار المجتمع بشكل سريع، بل تدريجياً وكأنّ الكاتب يمرر رسالته إلى النساء اللواتي تتصاعد موجات التمرّد المستقر بذواتهن بأن السير نحو وجودهن، خطوة، خطوة، ورفض الأحكام الجائرة بحقهن، لا يأتي دفعة وحدة، بل دفعات، وهذا ما نجده موزعاً بين مراحل بالمتن السردي. ومن أول الأفكار التي بسطت جناحها عليها «العهر»، فتقول: (في يوم كنت بموقف الحافلات فسمعتُ شابين يتحدثان عن النساء، قال أحدهما لصاحبه كل النساء عاهرات.. نظرت إليه بطرف خفي وأنا أقول في نفسي «حتى أمك وأختك») النص يحمل رؤيتين، أحدهما: رؤية المجتمع الذكوري بأن كل النساء عاهرات ــ وهذه رؤية شائعة عند الغالبية الكبرى ـ والثانية: رؤية المرأة نفسها لكذا اتهامات (نظرت بطرف خفي) فهذه الصورة المشهدية خاصة بكل امرأة تسمع الاتهامات الموجّهة إليها، فنظرة الطرف خفي، صفعة رفض لما يقال عنها، وهذا أقل التقدير أنها رفضت الإساءة لبنت جنسها، لكن البطلة زادت (وأمك وأختك) فعادة الذكور يرون في كل النساء عواهر إلا أمهاتهم وأخواتهم، فماذا لو انشملن أولاء بتصنيف العاهرات؟ حتماً سيرفضون وتتغير رؤيتهم الدونيَّة للمرأة. 

وبالرغم من أن رفض البطلة جاء عبر الحوار الداخلي، لكنّها الخطوة الأولى لرفض هكذا أحكام. إن سما انطلقت من لبّ الرؤية الاجتماعية عن النساء، ثم صارت تدخل بقضايا أكبر، وهي الحب فهذا المقدس المقتول في مجتمعنا، مباح للرجل، محرم على المرأة، وسما تُعجب بزميلها باسل، الشاب المثقف القارئ والمفكر، واختيار هذا الصفات للشخصية تحرّك الحوار عندها، وتفسح طاولة النقاش لأفكار أهم، وأوّلها الحب، فجرت العادة أن يقوم الرجل بالاعتراف أولاً بمشاعره، ثم تبادله المرأة بذلك، وبهذا هي لا تملكُ خياراً حتى في مشاعرها، ولم تمرّ علينا قصة أو رواية أو واقعة ـ إلا بعض الاستثناءات ــ ومنها بطلة الرواية التي عرفت وجودها، ووصلت الى النضج الذاتي، فأصبحت قادرة حرية الخيار، والبوح بمشاعرها فتقول عبر المنولوج الداخلي أيضاً فتناقش أفكار الحب في المجتمع: (فقد اعتدنا أن يبدأ الرجل بكتابة الرسائل المعبرة عن شعوره، فتردّ عليه المرأة أمّا أن تبدأ هي بالبوح بمشاعرها فهذه جريمة لا تغتفر، كان عليهم أن يكلموا هذه القاعدة المنقوصة وأن يضعوا في نهايتها فارزة، وبعدها يكتبون «إلا في علاقة الرجل والمرأة» فالمرأة رد فعل الرجل.. أسعدني صمته عن رسالتي التي بحت فيها بحبي) فهذه الثورة الثانية التي جاءت عبر قلب وجه المجتمع، فلحظة اعتراف المرأة بحبها تمثل جريمة لا تغتفر، وهذه رؤية المجتمع، وبقلبها تكون المرأة استطاعت أن تغير الرؤية والأفكار البالية، واستعمالها للفعل (اعتدنا) بصيغة الجمع لأنَّ هذه القاعدة الثابتة منذ قرون، و(أسعدني صمته عن رسالتي التي بحت فيها بحبي) فصمت الرجل ليس الا لحظة عجزه عن الرد فتغيرت قاعدة الحب على يد المرأة. وكلّ ما سبق ذكره يمثل المرأة الوجوديَّة، فهذه الأخيرة كانت ممراً نحو الجسد الذي اكتشفته عبر الآخر، فتقول: (مددت جسدي العاري أول مرة أكاد أشعر بأن لي جسداً لم أكن أشعر بوجوده عندما استحم.. ارتدي ملابسي لم يكن يختلف عن القميص الذي ارتديه حتى الروايات التي كنت اقرؤها وفيها مشاهد جنسيَّة كنت أشعر أنها لا تعنيني حتى ظهر باسل). إن مشاعر المرأة المضطربة تكمن في مشاعرها تجاه جسدها، فتصبح تهتم به وتخشى من عيوبه، بل تسعى أن يكون ملائماً لما يطمح له كل رجل، لكن الحال مع البطلة سما كانت مختلفة، فهي لم تسعَ لعرض الجسد في مزاد الرجال، وإنما عرضت لوحات الفكر، وصوتها، ووجودها، فجاء الجسد بقدسيته التي هي تراها، لا الآخر؛ ليكمل وجودها.

كما أنها لم تكتفِ بهذا الحد، بل صارت تدافع عن جنسها المتهم بالغواية منذ أمنا حواء فتقول: (مشكلتكم أنكم تتغاضون عن تهمة المعصية التي أخرجتنا فتتهمون بها أمنا” حواء “بينما الله قال “فوسوسَ لهما” سألجمكم بنكتة، أنتم تقولون إن “حواء” أكلت من التفاحة وأخرجت آدم من الجنة ألا تعرفون ما يعني ذلك؟ أول كائن بشري تمرّد هو الأنثى بتمرّدها أخرجت نبياً من جنته.. فهل تعجز عن إخراجكم من تقاليدكم البالية؟ امرأة أخرجت نبياً من الجنة وامرأة كادت توقع نبياً ليضاجعها. أردد مع نفسي هذه الكلمات وهناك شيء يعتمل في صدري سأفعلها ولتذهب التقاليد إلى الجحيم). 

إن النصَّ حوارٌ داخلي لا يمثل تمرداً بل ثورة على الأفكار المغلوطة ومنها أن كل امرأة هي حواء خُلقت للغواية، لكن الكاتب يرى العكس برؤية المرأة لا رؤيته هو، فالبطلة كما قالت فهل تعجز عن اخراجكم من أفكاركم البالية؟ فهي مرهونة لابن عمها في إحدى القرى، وهؤلاء لا يرون في المرأة إلا قطعة أثاث، فهنا يتدخل الزمن بعد أن كان عاماً في الرواية، صار محدداً بعد 2003 ودخول المحتل إلى بغداد، وسجنهم لابن عمها فهد وحبيبها باسل، اجتمع الاثنان بزنزانة القدر، ليقوم الحبيب بتلقين ابن العم الخطيب مفاتيح الفكر، وبعد خروجه يلتقي بابنته عمه (سما) التي أصابت بيأس الحب؛ حبيبها الغائب، فيصبح فهد تلميذاً لأفكارها يتغذى منها، ويكون كما أرادت وبهذا تنتصر على الأفكار البالية وتتزوج من فهد. وهذه المناورة التي قام بها الكاتب لا ليتحرر من النهايات الرومانسية، بل ليؤكد أن المرأة تفعلها وتتخلص من التراب الذي يغطي التقاليد. 

إنَّ الكاتب علي الحديثي بروايته التي اعتمد على صوت المرأة ولغتها الرشيقة، فعزل ذاته ومرر ما يؤمن من أفكار من خلالها، فكانت الشخصيات والمشاهد والوصف مكثفاً، وبلغة أدبيَّة لا تخلو من الصور.