ملابسات بيان 1969 الشعري

ثقافة 2023/01/02
...

 د. نادية هناوي 


فهل كان البيان الشعري ـــ الذي عرفه العام الأخير فقط من عقد الستينيات وعُدَّ أهم سماته التحديثيّة ــ مداوماً على بنوده في هذا العقد وما بعده؟. 

لا مراء في أنَّ الأمور بمقدماتها، ولقد كان البيان في ولادته الأولى عبارة عن مقالة كتبها الشاعر فاضل العزاوي كافتتاحية يدشن بها العدد الأول من مجلة فتية هي (شعر 69) ــ كما ثبّت شهود ولادة البيان الشعراء الذين وقعوا عليه وهم سامي مهدي وخالد علي مصطفى وفوزي كريم ــ وأن هذه الولادة دُشنت بالصدفة ولذلك لم يداوموا بمقصديّة شعريّة وهمّ فكري على تطبيق البيان فعليّاً في قصائدهم، وإنما ظلت بنود البيان حبراً على ورق وانفرد كل شاعر منهم مشغولا بهم قصيدته وبحسب ما توحي إليه تجربته وما يتمخّض عنه التمرّس فيها. 

هذا إن لم نضع في بالنا أن شاعرين منهما انقلبا على بعضهما، وكل واحد يدّعي الأرجحيّة له في كتابة البيان أو يراهن على أن فكرة البيان هي من بنات أفكاره. وما تخاصمهما حوله سوى دليل على مساهمة هذا البيان الواضحة ـ لا سيما بعد الذي أثاره من اهتمام وما تركه من تأثيرـ في تعزيز تجربتهما الشعريّة والنقديّة ولو كانت مسألة تطبيق بنود البيان والالتزام الحرفي به هي المقصودة لاختلافا كاختلافهما حول ولادته.

وما كان للشاعر سامي مهدي أن يؤلف كتابه (الموجة الصاخبة) وينشره عام 1994 ــ مع تأكيده أنه بدأ بكتابته عام 1987ـ سوى رد فعل، لا على عدم إشراكه في ملف مجلة (فراديس) العدد 4 و5 اغسطس 1992 وفيه استكتب رئيس التحرير عبد القادر الجنابي شخصيات شعرية وروائية وقصصية وصحفية وفنية للكتابة عن مرحلة الستينيات، بل لأن غريمه فاضل العزاوي ادعى انه هو الذي كتب البيان وأن سامي مهدي والآخرين وقعوا عليه لا غير.  

وبالفعل كان كتاب (الموجة الصاخبة) هو القدحة الثانية بعد قدحة البيان الشعري التي أضرمت النار بينه وبين الشاعر فاضل العزاوي الذي ألف كتاب (الروح الحيَّة) فتعززت تجربة الشاعرين النقديّة وتدعمت مع مقولة (جيل الستينات) مكانة شعراء هذا العقد ونقاده أكثر.

واستذكر فاضل العزاوي في كتابه أعلاه محطات شخصية من تجربته الشعريّة ومخاضات عمله الصحافي معيداً الكرة وعلى المنوال نفسه الذي انتهجه الشاعر سامي مهدي حتى أنَّ العنوان الذي اختاره العزاوي هو الآخر مستوحى بالمشاكلة من عنوان كتاب سامي مهدي، وتبادلا الاتهامات فتساءل العزاوي هل ظل سامي مهدي وفيّاً للروح التي أطلقتها مجلة (شعر 69)؟ وكان عدم الود بينهما واضحا من لقائهما الذي قال عنه سامي مهدي: (في عام 1965 التقيت بالعزاوي مصادفة كنت مع صديقي جليل العطية فعرّفني به فوجدت منه نفوراً أزعجني فأهملته، ويبدو أن السياسة هي التي كانت تنفّره منّي.) الموجة الصاخبة، ص130

وتباهى فاضل العزاوي بأن بإمكانه أن يناقش ما طرحه البيان من إشكالية علاقة المثقف بالسلطة بينما لا يمكن لسامي مهدي ذلك وأن المجلة لم تُغلق بقرار من وزارة الارشاد وانما بقرار من مجلس قيادة الثورة، بيد أن ما ذكره العزاوي في كتابه (الروح الحيَّة) يؤكد أن علاقته مع بعض الشخصيات في السلطة كانت قائمة وأنه كان يرافقهم في أسفارهم إلى أوروبا ثم كيف يكون لسامي مهدي موقف من إشكالية العلاقة بين المثقف والسلطة وهو الذي تدرج بسرعة في مراتب عليا وحساسة وحصل عام 1969 على موقع مهم في وزارة الثقافة وانتقل للعمل معه رفاقه موسى كريدي وعبد الأمير معله وحميد سعيد.

وما أخذه العزاوي على سامي مهدي يؤخذ عليه أيضا إذ لم يثبت بالدليل الملموس أنه وقف إلى جانب الضحية متضامناً مع ما أعلنه في البيان ـ هذا على نية أنه هو الذي كتب البيان ـ كما ان ما ذكر في البيان الشعري حول علاقة الشعر بالسياسة لم يؤكده العزاوي بموقف معين يشي ـــ وهو الذي تمتع بالحرية في مهجره بألمانيا ـــ بأنه أفضل من موقف سامي مهدي من هذه العلاقة التي يتفاخر بها عليه في الأقل. 

وما ذُكر في البيان من اشتغال الشاعر على ذاته، لم يكرس له العزاوي تجربته كي يختط لنفسه نهجا يختلف عن النهج الذي عُرف به قبل كتابة البيان، متذهبا بمذهب محدد سريالي أو غير سريالي. وما كان حال سامي مهدي مع جمعية (المؤلفين والكتّاب) إلا كحال العزاوي مع مجلة (ألف باء) ولقد انتفع كل منهما على طريقته الخاصة، فحصل الأول على انتداب الجمعية له للسفر إلى الشام وحضور مؤتمر دولي مهم في بيروت وكان أن حصل الثاني على فرصة السفر مرافقا الوفود الرسمية بصفته الصحفية.

وعلى الرغم من أن كتابة البيانات ليست تجربة جديدة في الشعر العراقي، بل عرفها بعض الشعراء من خلال كتابة مقدمات نظرية لدواوينهم هي بمثابة بيانات وإن لم يسموها كنازك الملائكة مثلا، فإن كتابة البيان الشعري الستيني لم تكن ناجحة لأنها لم تحفز الشعراء الآخرين على الالتفاف حوله وتشكيل مذهب شعري من خلاله. 

وبعض المحاولات التي جرت في سنوات لاحقة بكتابة بيانات ظلت محاولات شكلية لم تسفر أكثر عما أسفر عنه البيان الستيني. ولو كان الشاعران قاصدين إنشاء مذهب أدبي من وراء بيانهما لما ألفا كتابيهما وتوضحت من خلالهما رغبة الاثنين في التعريف بمجلتهما الفتية أما فذلكة البيان فكانت وسيلة تسمح بأن يكون للمجلة صدى وتأثير بين المجلات الأخرى. ولو كان البيان مخاضاً لكانت المداومة عليه مؤكدة لا أن يكون محض صدفة عابرة في كتابة افتتاحية صحفية بروح شعرية أفادت كثيرا من البيان السريالي لاندريه بريتون فاستوحته شكلا ومضمونا حتى أن هناك مسائل في هذا البيان لا علاقة لها بواقعنا العربي وتنطبق على الواقع الأوروبي في ما بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى ذُكرت في هذه الافتتاحية وجرى التغاضي عنها سهواً أو قصداً. ولقد اختلفت مواقف الأدباء والنقاد من البيان الشعري سواء وقت إعلانه أو بعد مرور زمن ليس بالقليل عليه.

فأما وقت إعلانه فوثقته مجلة (شعر 69) في عددها الثالث وقدمت تقريرا عما كُتب في الصحافة العراقية لصالح البيان من قبيل ما كتبه حسين عبد اللطيف وطراد الكبيسي ونزار عباس وحميد سعيد ومؤيد الراوي وعبد الرحمن طهمازي وفاضل ثامر وحميد المطبعي وحسين مردان وغيرهم كما ردت المجلة على ما نُشر في مجلة الثقافة الجديدة من مقالات كتبها صلاح خالص وعبد الكريم كاصد وغيرهما.

ولم يتبدل موقف فاضل ثامر من البيان الشعري فبعد عقود على نشره، كتب الناقد دراسة عنوانها (فاضل العزاوي وثراء التجربة) وفيها أكد أن البيان الشعري ميّز العزاوي عن أقرانه من جيل الستينيات وانه أفاد مما لم يفد منه شعراء الخمسينيات الذي تأثروا بالحداثة الرومانسيَّة الانجليزية لعزرا باوند واليوت وسيتويل وأخذ الحداثة الشعرية من فرنسا وأمريكا فتأثر ببودلير ورامبو ووايتمان ومدرسة البتنكس وتأثر بدور الشاعر هيوم المؤسس للمدرسة التصويرية الاماجية. ووجد الناقد في هذه الحداثة حلاً لإشكاليات تلك المرحلة فكان البيان الشعري صوتا يذكر بالبيان السريالي لبريتون وبيان المستقبل الايطالي وبما يدلل على أن العزاوي واحد من كبار شعراء الحداثة الشعرية وتجربته الروائية هي جزء تجربته الشعرية.