هويّتنا الوطنيّة.. البحث عن الوجود

ريبورتاج 2023/01/02
...

   البصرة: صفاء ذياب
على الرغم من اختلاف موضوعات الدراسات الأكاديمية التي تحتضنها الجامعات العراقية، غير أن موضوع الهوية وتشكلاتها وتمثلاتها له الحصة الأكبر منذ العام 2008 وحتى اليوم، هذا الموضوع الذي بُحث فيه كثيراً في مجالات الرواية والشعر وحتى القصة القصيرة كنماذج لتطبيقاتها، منطلقين من موضوع الدراسات الثقافية منهجاً للدارسين.

هذه الالتفاتة من قبل الجامعات العراقية كانت لها أسباب عدة، منها ما هو ثقافي، انطلاقاً من سيطرة الدراسات الثقافية والنقد الثقافي على الدرس الأكاديمي من جهة، وما هو سياسي، بسبب التشعبات الحزبية التي عرفت بها السياسة العراقية بعد العام 2003، ومن ثمَّ ما هو طائفي ومناطقي، حسب ما مرَّ على العراق من أحداث، لم يكن آخرها الصراعات الداخلية، ابتداء من العام 2006 ومروراً بالعام 2011، والتظاهرات التي عمت عموم العراق، وليس آخرها اجتياح داعش للمدن العراقية وظهور هويات جديدة على الساحة العراقية.
 ما الهوية؟

هذه التحوّلات التي مرّت على العراق كان لها تأثير واضح على الدرس الأكاديمي، لا سيّما أنها كانت واضحة في الكتابات الإبداعية، في الداخل والخارج، وبالتالي قدّمت نماذج مختلفة لصراع الهوية ثقافياً وسياسياً واجتماعياً.

وللهوية الوطنية تعريفات عدّة، منها ما عرّفها إبراهيم العبيدي، بأنّها الهوية الوطنية في كل أمّة هي الخصائص والسمات التي تتميّز بها، وتترجم روح الانتماء لدى أبنائها، ولها أهميتها في رفع شأن الأمم وتقدّمها وازدهارها، وبدونها تفقد الأمم كلَّ معاني وجودها واستقرارها، بل يستوي وجودها من عدمه، وهناك عناصر للهوية الوطنيّة لا بدَّ من توفّرها، وقد يختلف بعضها من أمّة لأخرى.

ومنها ما نقلته الكاتبة نبراس النائلي بقولها: هي السمة الجوهرية العامة لثقافة من الثقافات، ولكنَّ هذه السمة ليست ثابتة أو جاهزة أو نهائية، كما يفهمها أو يعرّفها البعض أحياناً، ولذلك لا يمكننا صياغة تعريف إجرائي لها ولا توصيفها وتحديد خصائص ذاتية لها، لأنَّها مشروع ثقافي مفتوح على المستقبل. ولكنَّه مشروع معقّد ومتشابك ومتغيّر من العناصر المرجعية المنتقاة المادية والاجتماعية والذاتية المتداخلة والمتفاعلة مع التاريخ والتراث والواقع الاجتماعي.

وتضيف النائلي: كما يرى البعض أنَّ الهوية هي عملية تمييز الفرد لنفسه من غيره، أي تحديد حالته الشخصية، ومن هذه السمات التي تميّز الأشخاص عن بعضهم هي الاسم والشخصية والسن والحالة المهنية والعائلية وغيرها. وبذلك يقال في المنطق: مبدأ الهوية ويقصد به أنَّ الموجود هو ذاته، وبذلك لا نخلط بين الشيء وسواه وما عداه، وألّا نضيف للشيء ما ليس له.

وتشير الدكتورة هيفاء أحمد محمد إلى أن الهوية الوطنية الجامعة هي مرحلة تاريخية ووعي متطوّر على وعي الانتماء الفرعي الضيق، وهو وعي مقترن بوجود ونشوء الدول، ومن جهة أخرى، إنَّ هذه الهوية هي الرباط الرئيس الذي يجمع ويوحّد أناس هذه المجموعة، ويجعل منهم شعوباً أو أمماً أو غير ذلك. وتمثّل الهوية من المنظور السياسي محوراً مركزيّاً في عملية بناء السلطة والدولة التي قد تتأسّس على هوية مجتمعية موحدة.

وتذهب الدكتورة هناك أحمد محمد إلى التأكيد على أنَّ تأسيس دولة ما يفرض الإجابة على سؤال عن ماهية هويّتها، وأن سرعة ووحدة ووضوح إجابة على هذا السؤال غالباً ما يجنّب الدول الأزمات ويحقّق لها الثبات والاستقرار. لكنَّ العراق اليوم ما زال يعانى ومنذ تأسيسه، مشكلات انتهت في محصّلتها إلى تأصيل الهويات الفئوية لما دون الدولة، والانتقاص من المشتركات التي تجمع الشعب العراقي وقد تمثّلت المشكلات في أنَّ تعيين الحدود الراهنة للدولة العراقية تمَّ وفقاً للمصالح البريطانية، وأنَّ الوضع الاقتصادي كان غير مناسب لبناء طبقة وسطى تعدُّ الأساس لبناء هوية وطنية. وأنَّ القيادات الفئوية لما دون الدولة بقيت فاعلة كرجال الدين وزعامات العشائر والإقطاع.

 

عناصر الهوية

تختلف تعريفات الهوية عموماً والهوية الوطنية حسب مرجعيات الباحث، وتؤسّس لمفردات جديدة بحسب هذه المرجعيات.

لهذا يحدّد الكاتب إبراهيم العبيدي عناصر للهوية الوطنية، منها: الموقع الجغرافي، إذ إنّ من يشتركون فيها يضمّهم موقع جغرافي محدد. التاريخ، وهو التاريخ المشترك الذي يربط من يشتركون في الهوية الوطنية الواحدة، وهو الأحداث التي مرّت بآبائهم وأجدادهم وأجداد أجدادهم بصفتهم الجماعيّة على هذه الأرض. الاقتصاد، ويربطهم كذلك رباط اقتصاديّ واحد، ونظام مالي واحد، كنظام العملات الموحد، ونظام التسعيرة الموحد لبعض السلع الاستهلاكيّة. العلم الواحد، وهو الرمز المعنويّ الذي يجمع كلّ أبناء الشعب الواحد والقضيّة الواحدة، وهو شيء مادي ملموس، له رسم وشكل محدد بألوان محددة، ولكنه يرمز إلى قيمة معنويّة، وهي الهوية الوطنية والانتماء للوطن. الحقوق المشتركة، حيث يتمتّع أبناء الهوية الوطنية الواحدة بالحقوق ذاتها، كحقِّ التعليم، وحق التعبير عن الرأي، وحقِّ الحياة بكرامة وعزة على أرضهم، وحق الملكية، وحق البناء فوق أرضهم، وحق العمل.

في حين تحدّد نبراس الوائلي نوعين للهوية الوطنية، هما: الهوية الاجتماعية والهوية الذاتية (أو الشخصية)، ويمكن التميز بين هذين النوعين من خلال التحليل، إذ يمكن النظر إليهما من خلال علامات ومؤشّرات على ماهية هذا الشخص أو ذاك. إذ إنَّ هذه المؤشّرات تحدّد موضع الشخص بين أفراد آخرين يشاركونها الخصائص نفسها، ومن الأمثلة على الهوية الاجتماعية: الطالب والأم والمحامي والآسيوي والكاثوليكي والمتزوّج وغيرها. حيث تتضمن الهويّات الاجتماعية أبعاداً اجتماعية، فهي تعطي مؤشّرات على أنَّ الأفراد متشابهون مثلهم مثل غيرهم من الناس، وإذا كانت الهويات الاجتماعية دليلاً على تشابه الأفراد، فإنَّ الهوية الذاتية (الشخصية)، تضع الحدود المميّزة لنا بوصفنا أفراداً، إذ تشير الهوية الذاتية إلى عملية التنمية الذاتية التي نرسم من خلالها الملامح المميّزة لأنفسنا ولعلاقتنا مع العالم من حولنا، من خلال الأدوار المتعدّدة والمتنوّعة التي يؤدّيها الفرد في حياته الاجتماعية تتحدّد هويته الفردية، إذ إنَّها تتغيّر باستمرار فتضيف إليها ممارسة الحياة سمات عديدة وتحذف سمات أخرى، أي أنَّ الفرد في حياته العامة يتحوّل من دور إلى آخر، فمرَّةً يكون الابن ومرَّةً يكون الأب ومرَّةً يكون الطالب ومرَّةً يكون الأستاذ وهكذا، وفيما تعمل البيئة الثقافية والاجتماعية عملها في تشكيل الهوية الذاتية فإنَّ العامل او الخيار الفردي يقوم بدور مهم في هذا المجال.

 

الهوية الجماعيَّة

ومع أنَّ هذه الهويات الفردية تشكّل بمجموعها الهوية الجماعية، فإن هذه الهوية الجماعية تبنى من خلال عواصف عدّة تمرّ بأي بلدٍ أو مجتمع. وربّما يمكننا طرح سؤال مهم، وهو: ما الذي يجعل هذه الهوية تطفو على السطح في خضمِّ ما يحدث من تغيّرات في أي بلد؟

فمع الانهيارات السياسية والاجتماعية في المجتمع العراقي، بدأت الهوية بالظهور شيئاً فشيئاً، حتى عُدّ المطالبون بها وطنيين، وما حدث في الأنبار من جهة، وفي النجف من جهة أخرى، وفي البصرة من جهة ثالثة، وغيرها من المدن العراقية تأكيداً لهذا المنحى.

وبحسب ما يذكر زيغمونت باومان، فإنَّ عالم الاجتماع جوك يونغ يرى "ما إن تنهار الجماعة، حتَّى تُخترع الهوية اختراعاً". هذه المقولة التي يمكن أن تطبّق بحذافيرها على مجتمعنا العراقي، فمع انهيار أجزاء مختلفة من المجتمع العراقي، برزت المطالبات بالهويات بشكل واضح.

ويضيف باومان: إنَّ الهوية التي تعدُّ هي الشغل الشاغل في المدينة اليوم ولعبتها الأكثر شيوعاً فيها، تدين بالاهتمام الذي تلقاه والعواطف التي تثيرها لكونها بديلاً عن الجماعة: عن ذلك "المنزل الطبيعي" المزعوم أو تلك الدائرة التي تظلُّ دافئة مهما كانت الرياح باردة في الخارج. لا يتوفّر أيٌّ منهما في عالمنا الذي يتسم بسرعة الشخصنة والفردية والعولمة، ولهذا السبب يمكن أن يكون كلٌّ منهما آمنين، من دون خوف من التجربة العمليّة، ويمكن تخيّلهما كملاذين مريحين للأمن والثقة ولهذا السبب هما مرغوبان بقوّة. ومع ذلك، فإنَّ المفارقة هي أنَّ توفير الهوية ولو لقدر ضئيل من الأمن وتحقيقها لأيِّ قدر من الشفاء أو تهدئة الألم، يجب عليها أن تتناقض مع أصلها؛ يجب أن تنكر كونها "مجرّد بديل"، تحتاج إلى استحضار شبح الجماعة نفسها التي أتت لتحلّ محلّها. إذ تنبت الهوية على مقبرة الجماعات، لكنَّها تزدهر بفضل الوعد بقيامة الموتى.

ويبحث باومان في فكرة الجماعات ونشوء الهوية، موضّحاً أنَّ حياةً مكرّسة للبحث عن الهويّة هي حياة مليئة بالضجيج والغضب. وتعني "الهويّة" التميّز: أن تكون مختلفة، وفريدة بفضل هذا الاختلاف، وبالتالي فإنَّ البحث عن الهوية لا يمكن إلَّا أن يقسّم ويفصّل. ومع ذلك، فإنَّ ضعف الهويّات الفردية وهشاشة بناء الهويّة الفردية يدفع بناة الهويّة إلى البحث عن أوتاد يمكنهم معاً تعليق مخاوفهم وقلقهم المجرّبين بشكل فردي عليها، وبعد القيام بذلك، يقومون بأداء طقوس طرد الأرواح الشرّيرة بصحبة أشخاص آخرين خائفين وقلقين مثلهم. ولعلَّ السؤال عن قدرة "الجماعات الوتدية" على تقديم ما هو مأمول منها- أن تقوم بتأمين جماعي ضدَّ حالات عدم اليقين التي يواجهها الأفراد- مسألة محل نقاش؛ ولكن ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ السير جنباً إلى جنب على طول شارع أو شارعين، أو إقامة حاجز بصحبة الآخرين أو التلاحم في الخنادق المزدحمة قد يوفّر راحة مؤقّتة من الشعور بالوحدة. وسواء أجاءت النتائج جيّدة أم سيّئة أو بلا طائل، فقد تمَّ القيام بشيء ما في الأقل؛ فيمكن للمرء أن يستمدَّ بعض الراحة من رفضه طرح هدف محدّد ومن رفع يديه ضدَّ الضربات. ولا عجب إذاً أنَّه- كما يحذّرنا جوناثان فريدمان- في عالمنا سريع العولمة "الشيء الوحيد الذي لا يحدث هو أنَّ الحدود تختفي. بدلاً من ذلك، يبدو أنَّها أقيمت في كلِّ زاوية شارع جديد بكلِّ حيٍّ متدهور في عالمنا".

وبالتالي، كيف لنا أن نعيد قراءة هويّتنا العراقية؟ وكيف يمكن لهذه الدراسات التي ملأت الجامعات العراقية أن تعيد فهم هويتّنا الممزّقة؟ ربّما هي أسئلة تحتاج لأسئلة أخرى لا إلى إجابات.