اختلال العالم

ثقافة 2023/01/04
...

  عطية مسوح 

      هذا عنوان كتاب للأديب المفكّر أمين معلوف، أصدره باللغة الفرنسيّة عام 2008 وتُرجم إلى العربيّة عام 2009 وصدر عن دار الفارابي في بيروت.                                                              

وأمين معلوف روائيّ لبنانيّ يكتب بالفرنسيّة، وله – فضلا عن رواياته الكثيرة – عدد من الكتب الفكرية أبرزها كتابان هما (الهويَّات القاتلة) و (اختلال العالم). وبهذين الكتابين يدخل المؤلف عالم الفكر السياسيّ بقوّة وجدارة. وفيهما تبرز قدرته على تحويل التجربة الذاتية إلى أفكار واستنتاجات نظريَّة ورؤى مستقبليَّة، قد يتفق معها بعضنا أو لا يتفق، ولكنَّ القارئ المنصف سيتلمّس أهمّيتها وصدق الغاية الإنسانيَّة التي دفعت الكاتب إلى كتابتها. 

 إنَّه ينطلق من تجربة ذاتيّة، وذلك لأنَّ الكتابين يرتكزان على معايشة الكاتب بيئتين مختلفتين إلى درجة التناقض، فهو عربيّ لبنانيّ، عاش في لبنان سبعة وعشرين عاماً قبل أن يغادره إلى فرنسا ويستقرّ فيها. لذلك يعدّ نفسه ثنائيّ الهويّة، وابنَ ثقافتين، أو لنقل إنَّ شخصيّته هي حصيلة ثقافية وسلوكيّة لتفاعل ثقافتين عريقتين قويّتين. 

غادر أمين معلوف لبنان عام 1976 وحلَّ في فرنسا في الوقت الذي بدأت تشتدُّ فيه أزمة العلاقة بين المواطنين الأصليين والوافدين (المهاجرين) في بعض المجتمعات الأوروبيَّة، وبخاصّة في فرنسا، وبدأت تصبح أحد موضوعات الفكر السياسيّ في تلك المجتمعات. وواضح أنَّ أزمة العلاقة هذه هي أزمة هويّة، أي أنَّها ناتجة عن الإحساس بتناقض الهويات، فرأى أنَّ تفاقمها قد يؤدّي إلى عواقب وخيمة، ومن هنا جاء وصفها بأنَّها قاتلة في كتابه (الهويّات 

القاتلة). 

أمّا كتاب (اختلال العالم) فيبدو للقارئ أنّه حصيلة التأمّل في مشكلات العالم الخطيرة، والتي تفاقمت بعد انهيار نظام القطبين الذي تحكّم بالعالم نحو نصف قرن بعد انتهاء الحرب العالميَّة الثانية، وتحقّق فيه توازن القوّة والمصالح والرعب. وتقوم معالجات الكاتب واستنتاجاته على ركيزتين هما: تأمّل وضع العالم المختلّ بعد انهيار القطب السوفييتيّ، والعودة ببعض المشكلات إلى جذورها في أواسط القرن العشرين. ومن هاتين الركيزتين يصل إلى أهم مظاهر اختلال عالمنا، محذّراً ممّا يمكن أن ينجم عن استمرارها وتعاظمها.

وبين مظاهر الاختلال التي يتحدّث عنها بالتفصيل مظاهر ذات طابع عالميّ وأخرى ذات طابع موضعيّ محدود. أمّا مظاهر الاختلال العالميّ فأبرزها ثلاثة هي:

1 – اختلال الإدارة السياسيّة للكرة الأرضية، ويأتي ذلك من كون خمسة بالمئة من سكّان العالم (أي الولايات المتحدة) أكبرَ دوراً من خمسة وتسعين بالمئة. فالدولة الأمريكيّة تستأثر بالقسط الأعظم من توجيه العالم سياسيّاً واقتصاديّاً، وتقرّر – تقريباً – أهمّ ما في الوضع العالميّ.

وبطبيعة الحال فإنَّ القارئ سيدرك أنّ هذا الوضع كان في العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين، أي في زمن تأليف الكتاب، والمتابع للوضع الدولي يرى أنّ العقد الثاني بدأ يشهد نوعاً من التغيّر الذي أصبح واضحاً في بدايات العقد الثالث. ولكن، هل سيكون هذا التغيّر راسخاً أو هو عرضيّ عابر؟ الزمن سيجيب، غير أنّ ما يمكننا قوله أنّ أحاديّة القطب غير ممكنة، وهي المؤهلة لتكون عابرة، لأنّها مخالفة لطبيعة الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة التي لا تقوم إلّا على التعدّد والصراع. 

2 – والاختلال العالميّ الثاني، كما يرى المعلوف، هو قوّة الأصوليّات، ولا سيما الدينيّة، وما يمكن أن ينجم عنها من مخاطر. والأصوليّات الدينيّة كما يرى هي أهمّ عوامل كبح التطوّر وإعاقة الديمقراطيّة. وفي هذا المجال نجد المؤلّف محقّاً، فالأصوليّة تعني – فيما تعنيه – الإحساس بالتفوّق على الآخر، وتؤدّي إلى رفضه، وتسعى إلى إلغائه، وبذلك فإنّ الأصوليّة عداء حتميّ للديمقراطيّة. ويجد المؤلّف في الأصوليّة الدينيّة وارتباط بعض تياراتها بالعنف عاملَ تهديد للحضارة الأوربية، ويلوّح إلى إمكانيّة الصدام بين أصوليّة دينيّة متشدّدة لدى المهاجرين إلى أوروبا وأصولية قوميّة مقابلة لها، تنمو بوصفها ردّة فعلٍ، لكنّها لا تطرح حلاّ ديمقراطيّاً للمشكلة.

3 – أمّا الاختلال العالميّ الثالث فهو الاختلال البيئيّ الذي قد يدمّر الحياة على كوكبنا إذا لم يعالج بسرعة. ويرى المؤلّف أنّ العلم قادر على إيجاد حلول للمشكلات البيئيّة، غير أنّ ثقته بالعلم يزعزعها ضعف الثقة بإرادة الإنسان، ويقصد انسياق بعض الفئات وراء مصالحها المباشرة وتقديمها على مصلحة حياة الإنسان على الأرض. ويلخص ذلك بقوله: "العلم حياديّ خلقيّاً، وهو في خدمة حكمة البشر كما هو في خدمة جنونهم".

أمّا الاختلالات الموضعيّة فأهمّها ما يتعلّق بالبلدان العربية، وأبرزها:

1 – فقدان الشرعيّة في هذه البلدان. وهو يشير إلى تسلّم الحكم عن طريق انقلابات عسكريّة، وإقامة أنظمة بعيدة عن الديمقراطيّة، وما يقترن بذلك من اختلاق "شرعيات" أخرى، كالشرعية الوطنيّة (على غرار الأتاتوركيّة) والشرعيّة الثورية...

2 – واستناداً إلى ذلك يطرح المؤلّف الاختلال الثالث على شكل سؤال: هل البلدان العربيّة غير مؤهّلة للديمقراطيّة؟ ويدفع بالقارئ إلى الميل نحو الإجابة بنعم.

يتناول الكاتب مظاهر الاختلال كلّها بروح تشاؤميّة، لا تستطيع بعض عباراته التفاؤلية أن تخفيها أو تقلّل من أثرها على القارئ. وإذا كان لا يضع – ولا يقترح – حلولاً واضحة، فلأنّ ثقته بالقوى التغييريّة تبدو ضعيفة، تتهالكُ أمام نزعات الشرّ التي تحرّكها المصالح الآنيّة.

الكتاب محاولة لقرع ناقوس الخطر، ومن ثم، فهو ذو غاية إنسانيّة تستحق التقدير، والتعامل الإيجابيّ معها.