توظيف المعرفة في الدراما العربيَّة

ثقافة 2023/01/04
...

 ميثم الخزرجي

 من الطبيعي أن أيَّ فعل جمالي له ملامحه الفتيَّة التي تشتمل على الإحاطة بالتعريفات البدائيَّة لماهية هذا الفعل، ومما لا شك فيه أن كسر النمطيَّة السائدة والتصريح بوجه مغاير يأتي من نصاعة عدة المبدع الفنية واختلاف أثرها، فالأرض الأولى عتبة تأسيس وريادة لها الزعم والسبق في أن تلوّح وتشيّد وتشير لتسهم بصورة مباشرة بشيوع هذا المشغل وقد يترتب عليه دلالات إبداعيَّة كثيرة نستطيع من خلالها أن نؤثث محتواه وفقاً لمحددات معياريَّة لها قيمتها المهمة.

 لذلك، ومن البديهي أنَّ مسارات الحداثة باختلاف مشاربها المشكّلة ثقافيَّاً ودلاليَّاً إن كانت نحتاً أو سينما أو مسرحاً لها هيكلها الناشئ، وهنا تكون صورة الحداثة المستجدة من خلال المرور بمراحل عديدة قلّصت وشذّبت وأضافت إلى الشطر الأول لتصل إلى المستوى الأخير الذي توقفنا عنده، وهذه مسألة لا غبار عليها ونتائجها واضحة في أي منتج سواء كان بشريَّاً أو علميَّا – تكنولوجياً- أو فنيَّاً بل حتى معرفيَّاً بطريقة استدلاله من خلال الغوص في عمق السؤال الإشكالي، بيدَ أن سعة المخيال ومداه وهو العامل المهم الذي له درامته حيال التصريح بتفرد مؤن الأديب أو الفنان والتي لا يمكن أن نقرر مساحته نحن كمتلقين فيما إذا استبعدنا انزياحات المجاز الخارجة عن السياق الفنتازي المعبأ بخيالات فائضة عن الواقع لتوقفنا عند كثير من الأفكار المنشطرة والتي لا يقبلها الذهن، ويرجع السبب إلى عدم القدرة على تدوير الحدث وفقاً لرؤى مغايرة لها اعتباريتها المقنعة.

 في حقيقة الأمر أنّ النظرة المتبعة لهذه المغايرة تأتت من بحث جاد وحصّالة ثقافيَّة مكتنزة لها ممكناتها التي تسعى إلى منح وتكريس مشاريعها بفطنة ودراية عالمة بما يدور وعن المحنة المعيشة التي أطاحت بالإنسان وصيّرته إلى سؤال ملتاع لا يكاد أن ينفك من هذه الدوامة باحثاً عن منفذ للخلاص.وقد بدا جليّاً في أغلب الأجناس الأدبية الغرض الناجم من توظيف أسئلة لها اجتراحاتها الجدليَّة، فمنذ عرافة الأدب بادرت أسماء مهمة بهذا الطرح فما زالت شعريَّة المعري حاضرة ونهمة في اعتلاء هذه الجنبة وصولاً إلى أدونيس وما يتخلل هذه الفترة من تجارب أوجزت قسطاً من الاستفهامات الدائرة في ذهنيّة الفكر العربي وحتى في السرد على اختلاف أشكاله فقد التمعت كثير من الأسماء التي تعنى بهذه المدوّنة وأسست لها مكوناً ديالكتيكياً داخل المتن الأدبي، ناهيك عن المسرح، وهذا دليل على البعد المعرفي المترتب على مشغل الأديب بغض النظر عن مدى مقبوليته من قبل العامة فأنا أتحدّث عن كينونة المادة وسعة استقلاليتها وجرأتها حيال هذا الغثيان الدائر بل عن الالتقاطة الحذقة وعينية المحتوى الذي طُرح، لكن قلّما تتبعنا أثرها على نحو واسع ومؤثر في المشهد الدرامي والسينمائي العربي مع التحفظ والاحترام على بعض من المحاولات الخجولة التي أتت هنا وهناك ولم تنل حظها من الشهرة أو ربما قوبلت بالرفض.

في واقع الأمر هناك عدة أسباب لمعرفة حالة الوهن والخمول ولم أقل التراجع كون عملية التباطؤ أو التخاذل لها عتبة أولى لتنطلق بعدها إلى أن تكون بهذه الحالة المتذبذبة لكن المسألة واضحة في أن تصل إلى هذا القحط المترتب على جفاء السينما من الوجهة المعرفيَّة، لعل الدافع الأبرز هو ذهني أكثر من غاية التسليع والترويج لمادة كهذه، فلو تعرفنا أولاً على طبيعة المشغل السينمائي وما يتضمن من عدة فنية لوجدنا أنَ هذا المشغل يحتاج إلى بذخ مادي تبعاً لطبيعة الأزياء ومواقع التصوير وأجور الفنانين والماكير ولوازم أخرى وما يلحقها بمشتغلي الكواليس... الخ. فمن المفترض أن يكون لديه مردود مادي من خلال تسويق المنتج وهذا رهان يحاكي طبيعة المجتمع وتقبّله أيضاً، لذا فالمسألة عرض وطلب من وجهة نظر تجارية، أما في ما يخص السياق العام المتضمن هاجس المجتمع ومدى استيعاب اللغة السينمائيَّة التي تهتم بالنزوع نحو الأسئلة التي تعنى بالمآل والمضامين الجدليَّة، فحال عرض هذه المادة في ظل زحام اليومي الموثّق في وسائل التواصل الاجتماعي بكثير من مجانيته وقليل من ضروراته لوجدنا أن هناك مواد سائلة ومجانية نهشت مساحة التأمل والوعي الراجع لطبيعة الفرد العربي فما عادت الأسرة تنعم بالرخاء والطمأنينة وتأتلف بحلقة دائريّة لا تخرج من خانة الهم الآني والفكرة المستكنة ليكون هناك استرخاء نسبي يستطيع أن يحاكي ويناقش ويتوقف عند هذه الأنماط المستعرة والمثيرة، فمن مستجدات العولمة التي جعلت الطقس بعموميته مترهّلاً بعض الشيء لتكون مآثرها جليَّة وواضحة على إذابة الكثير من مسحة الهدنة الدائرة التي تمسك بالفرد العربي، ناهيك من أن هناك مآزق وأزمات مجتمعيَّة وترّهات سياسيَّة أكلت من جرف وعي الفرد وقدرته المتكفلة على الاهتمام بالرؤى المختلفة فكراً ونسقاً طليعيَّاً، فهو يريد أن يرى مدوّنته المعبَّأة بالمآسي والخيبات الممضة سابحة ببعض من قصص الحب لتعرض على الشاشة، لذا من غير الممكن أن تتصدر لنا سينما بوجه معرفي ذي دلالة فكريَّة متزنة من دون ان ينبع من حاضنة تشتغل على هذه المحاور وإلا تكون المسألة مجردة خالية من أي نوازع فنية وجمالية لها رؤيتها ومتبنياتها الجادة.