صانعُ أمَّة.. الشاعرُ الفقير شيلَّر

ثقافة 2023/01/04
...

 د. فارس عزيز المدرس 

  يبدو أن الكتابة السيريِّةَ الحديثة باتت تتبع نهجاً أكثر جدوى، عبر التركيز على قيمة الأحداث؛ والحد من الإيغال في سرد حياة الشخصيات، لأن الشخصيات ما كان لها أن تكون قيد العناية لولا أهمية الأحداث التي لازمتها، وهذا هو المعيارُ الموضوعي، أما الأحوال الذاتيَّة فمفاتيح للنوافذ التاريخانيَّة التي تلازم حياة الأشخاص، لكن أن تكون هذه الأحوال محور السيرة فهذا شكل مبتذل لا كبيرَ قيمة فيه. وبخلاف المنحى الموضوعي تستخدم الشخصيات بوصفها رموزاً غالباً ما يتمُّ استغلالها لترويج مواقف نفعيَّة تسبغ عليها قداسات مختلفة.

 ولتجنّب الخلطَ الحاصلَ في معنى التاريخانيَّة أحاول حسمَ معناها فأقول: التاريخانيَّة منهجٌ يعتمدُ على ظروفٍ وسياقاتٍ مختلفة؛ يتمُّ عن طريقها تفسير الأحداثٍ. ويرى الناقدُ بول هاملتون في كتابه التاريخانيَّة Historicism "أنَّها حركةٌ نقديَّة تشدّد على أهميةِ السياقِ التاريخي لتأويل النصوص. إنّها معنيةٌ بجعلِ أيّةِ عبارةٍ فلسفيّة/ تاريخيّة/ جماليّة، ضِمن سياقها التاريخي، لسبْر المدى الذي ينعكس فيه أيُّ حدثٍ. 

لذلك مِن المفيدِ النظرُ في الظروفِ التاريخانيَّة التي صنعت شيلَّر. وأول تلك الظروف العصفُ الذي طال الذهنَ الأوروبي، بعد الصراع بين الوضعانيَّة والمثاليَّة ومِن ثمَّ الرومانسيَّة، وحفّزته أحداثٌ جِسام مرّتْ بها أوروبا مِن مِثل: الثورة الفرنسيَّة وزلزال لشبونة، الذي راح ضحيتُه ستون ألفَ إنسانٍ. وكان أولُ الأسئلةِ على تلك المآسي: أين الله ممّا يحدُث، وما طبيعةُ الخير والشر التي يبدو أنّها لا تميّز بين الأبرياء والأشرار، فبدأت جدالاتٌ واسعة قادها دعاةُ التنوير وعلى رأسهم فولتير وكانط.

رأى فلاسفةُ التنوير أنّ التجربةَ وحدها قادرةٌ على تحديد ما هو خير وما هو شر. وفي مجال القيم تصوّروا أنَّ ضميرَ الإنسان لا مُعقّبَ لحكمِه، وهو الذي يحدّد ما هو شرّ أو خير. وكان هذا التوجّه كفاحاً ضدّ المثاليَّة المُعطِّلةِ للحياة؛ والمرسّـخة لمصالحِ الإقطاع والكهنوت؛ فدخلت التجربةُ مجالَ العلم؛ لكنَّ الهوسَ بالتجربةِ يسري على الماديَّات، ولا يمكنه احتواء القيم والأخلاق، فكان لا بدَّ مِن مِعيار أرقى، ألا وهو الواجب الذي دعا إليه كانط، ومِن هنا رأى مفكرو عصرِ التنوير: أنّ العقلَ هو المَرجع، بينما رأى شيلّر أنَّ ثلاثيَّ الجمالِ والأخلاق والعقل على الترتيب هو المرجع.

إمتاز التنويريون بإهمال الماضي، وثاروا على القوميَّات، لكن مثُلهم لم تستطعْ وضعَ مناهجَ كافية؛ فاشتطوا في تفاؤلهم؛ من دون تحقيقِ سلامةٍ ذهنيَّة كافية. 

واستمرّت خيبةُ الأمل في الوضعانيَّة Positivism إلى أنْ أتتْ الرومانسيَّةُ في القرن الثامن عشر؛ لتحاولَ الحدَّ منها، والعودةَ إلى الماضي، فالماضي كما ادّعتْ هو العطاءُ والجمالُ والحب، بخلافِ جفاف العقل. وهذه عواملُ كانت تحتاجها ألمانيا لِلملمةِ شتاتِها ولعقِ جراحِها، وإحياء أنموذج البطل في حروبِها مع أقاليم أوروبية أخرى.

وجدت الرومانسيَّةُ من الكنيسة قبولاً ومِن الإقطاع دعماً، وقالت: بأنَّ الله يتجلّى في كلِّ شيء لا سيما الطبيعة. وانحسرت حركةُ التنوير، لولا ولادةٌ أخرى حصلت، لكنها كانت تطرّفاً آخر مضاداً لشططِ الرومانسيَّة، فانبثقت الوضعانيَّةُ (فلسفة وضع أصولَها الفيلسوف اوكيست كونت) وتعنىَ بالتجربة، ونبذ الميتافيزيقا. 

تزامن نجاحُ الوضعانيَّة مع حركة الكشوف العلميَّة في مجال المادة، أمَا مبادئها فكانت موجودةً من قبلُ؛ لكنَّها لم تستطعْ مقاومةَ التيار المثالي؛ لأنَّها لم تحقّق مكاسبَ ماديَّةً آنذاك، فالبعدُ النفعي هو الذي تسبّب في نجاح الوضعانيّة ولا يزال. والكثير مِن المعتقدات يؤول سببُ ثبوتِها إلى ما تدرُّ على أصحابِها أو المروّجين لها مِن المكاسب؛ أمّا البسطاءُ فليس لهم إلا الانسياقُ وراء مظاهرِ القداسةِ والخضوع للانتشار الذي فيها.

في ظلِّ هذه التغيراتِ الدراماتيكيّة عاش شيلَّر وهو ينتمي إلى المدرسةِ الكلاسيكية الحديثة، وقد يكون ضِمن الرومانسيين أو حتى الأدباء العابرين للمدرسيَّة، وكلّ ذلك لِما نجدْه في إبداعاتِه مِن تعبيرٍ عن كثيرٍ مِن الاتجاهات. 

إنَّ ما مرَّ مجرّدُ تنويهٍ سريع إلى العوامل التاريخانيَّة التي صنعت شيلَّر وكثيرين مثله. أمّا عن شخصِه فقد ولِد في ألمانيا عام 1759 وتُوفيَ في سنة 1805، وكان أبوه جرّاحاً في الجيش؛ اعتزل العملَ واستقرَّ في مدينة مار باخ وأنجب الطفلَ الذي رسمت له الأقدارُ حياةَ النبوغ. وبدت مواهبُه تلقّفُ خطوطَ المعرفة الأولى؛ ليكون لاحقاً المُعبّرَ عن روحِ الجماهير في ألمانيا.

أثّرت مؤلفاتُه في أعماقِ الشعب الألماني لِما كان يدين به من حريّةِ الفكر والإرادة، لا في نطاقِ الدين وحده بل في السياسة والفكر، أمّا في مجال الأدبِ فتجديدُه يُعد مناراً بين عصرين.

أسهم شيلَّر في صياغة الفكر الفلسفي في الفترة ما بين كانط وهيغل. واستطاع أنْ يكون فلكاً مَركزياً في الحياة الفكريَّة في العصر الذهبي للفكر الألماني، وهو عصر علوِّ الفلسفة المثاليَّة بالتوافق مع الكلاسيكيَّة المحدثة.

كتب شيلَّر في عام 1777 مسرحيتَه الأولى (اللصوص) تحت تأثير أفكارِ عصر التنوير، وفيها يتجسّدَ رفضُه القاطع للسلطةِ المطلقة دينياً وسياسياً، ويترسّخ نزوعه نحو الحرية الإنسانيَّة. 

 كان شیلر مثالياً وواقعياً في الوقت ذاته، واهتم بفلسفة كانط، وكانت له كتابات فلسفية منها: «عن الشعر الحساس والشعر الفطري»، ثم أصبح وبتوصيةٍ مِن جوته أستاذاً للتاريخ في جامعة ينّا عام 1987، وكانت محاضرته الأولى بعنوان (ما الهدف مِن دراسة التاريخ العالمي)؟ التي على إثرها كتب مسرحياتِه التي تعكس اهتمامه المتجذّر بالتاريخ. ثم كتب مسرحية فالنشتاين، أحد القادة العسكريين في حرب الثلاثين، ثم في عام 1801 ألف مسرحية (عذراء أورليان) تجسّد كفاح جان دارك الفرنسيَّة. 

أمّا أعظم قصصِه وآخرُها فـ (ولْهلم تِل) التي استقى موضوعها من جوته، الذي درس تاريخ تل بطل سويسرا القومي، وزار الأمكنة التي تقول الأسطورة إنّها كانت ميادين بطولته. ولكنه أعطى موادَّ دراسته لشيلَّر الذي استقى منها قصتَه؛ فجاءت مثالاً في النبوغ.

والواقع لم ينبغْ شيلَّر في الأدب إلا مِن خلال التاريخ أولا، ثم مِن الفِكرِ الفلسفي، لكنه لم يمارس الفلسفة لذاتها، بل لفهم الحياة، وقد استعان بالفلسفة للتحرّر مِن الفلسفة؛ لذلك اضطر إلى رفض تعريف كانط للجمال، بسبب كرههِ النزعة التجريديَّة؛ فشيلَّر ينفي التعارض بين الحريةِ والطبيعة (طبيعة الموجودات، الحسيَّة منها والنفسيَّة). 

يعدُّ الجمالُ لدى شيلَّر نقطةُ تلاقي الروحِ والمادة، أو الحرية والطبيعة، ولذا أكّدَ على أنَّ الجمالَ هو الحياة. بعدها رأى ضرورةَ التركيز على فلسفةِ الجمال، ليشرحَ مِن خلالِها نظريتَه في التطوّر الحضاري، مُعارضاً فكْر هوبز Hobbes.

سيُرسّخ شيلَّر أسسَ الحضارةِ الألمانيّةِ بثورته الجماليّة التي ربطها ربطاً مُحكماً بين مناحٍ ثلاثة (الأدب والفلسفة والثورة في التفسير الحضاري)، فأتت أعمالُه نتيجةَ فهمِهِ دورَ الجمالِ في تطوير التجربة البشريّة، ورأى المشكلةَ تنحصر في صياغة مفهوم الجمال على نحوٍ إجرائي مرتبطٍ بحركةِ التاريخ، والجمالُ لديه ليس مُكمّلاً ذوقيّاً، بل عنصر فاعل في حركة التاريخ، وطور مِن أطوارِ ارتقاء المجتمعات، شأنُه شأن الأخلاقِ والقانون. 

والجمالُ عند شيلَّر عنصرٌ وسيطٌ، ويشغل المرحلة الثانية في سلّم التطوّر البشري. وسيبدأ في هذا بمُعارضة الفيلسوف الإنكليزي هوبزHobbes، (1588- 1679)، الذي لاقت أفكارُه مُمانعةً واضطهاداً، نظراً لِما حوتْه من أفكارٍ عُدّتْ مُروقاً على الدولةِ والمجتمع، لا سيما نظريته في العقد الاجتماعي ونشوءِ الدولة، لكنه فسّرَ الصراعَ بين الإنسان وأخيه الإنسان على أنه مِحورُ المشكلةِ التي لا يخفّف مِن حدّتها إلا العقدُ الاجتماعي؛ منعاً مِن انفلاتِ القوة، لذلك سرَتْ مقولةُ هوبز المشهورة: الإنسانُ ذئبٌ بالنسبةِ لأخيهِ الإنسان.

أما شيلَّر فالقضيةُ لديه تطوريّةٌ، وذاتُ أبعادٍ أخلاقيَّة قابلةٌ للنموِّ، فشيلَّر يقرّرُ "أنّ للإنسانِ أطواراً ثلاثة يمرُّ بها، وهو بسبيله إلى النضج، وأولُ هذه الأطوار الطورُ الطبيعي. ويصف في هذا الطور حالَ الإنسانِ، ويأخذ بوصفِ هوبْز (قبل إبرام العقد الاجتماعي ونشأة الدولة).

 والإنسانُ في الطور الطبيعي سواءٌ عند هوبز أو شيلَّر يعيش حربَ الكلِّ ضد الكل. لكنّ ثمةَ فارقٍ بين هوبز وشیلّر في تفسيره، فـ هوبز يؤسس الصراعَ في مرحلة الطبيعة على فكرةِ القوةِ وأنَّ الشرَّ متأصلٌ في الناس، ويرغب كلُّ فردٍ في أنْ يمتدَّ بسطوته على حساب الآخرين.

 أمّا شيلَّر فيفسر الصراعَ على فكرةِ الضرورة، إذ تكون المواجهة بین الإنسانِ وطبيعةٍ أخضعته لقانونها، فهو يتحرّك على وتيرةٍ واحدة؛ متقلِّباً في أحكامِه، ودائبَ البحثِ عن ذاته، من دون أنْ يكون ذاته أبداً، وطليقاً من دون أنْ يكون حراً، ونِزاعه بالأساس مع الطبيعة وليس مع الإنسان، أمّا نزاع الإنسان مع الإنسان فخللٌ أخلاقيٌّ طارئ.

ولذلك كان الطورُ الثاني للإنسانِ لديه هو الطور الاستطيقي، وفيه يتّجه الإنسانُ صوبَ المطلق؛ أيْ إلى نزْعِ ذاتِه مِن براثن الطبيعة. والمطلقُ يحمله على تجاوز المادّي؛ والصعودِ مِن الواقعِ المحدود إلى عالم الأفكار والتأمل، بينما لم يكن الإنسانُ في الطور الطبيعي مستقلاً. 

في الطور الاستاطيقي يمكنه تأمل الطبيعة؛ وكلّما أمعنَ في إدراكها سعى إلى تحرّره من إكراهها له، فالجانبُ الجمالي جانبٌ فاعلٌ في تكوين الشخصية ونمو الإرادة، لذا يعطيه شيلَّر دوراً تأسيسياً لنزعةِ الإنسان نحو الارتقاء. والجانب الجمالي وإنْ كان مَرحلياً، إلا أنه يبقى مُتلازماً مع سعيهِ التحضّري، ولا يتوقّف إلا حين يتوقّف هذا السعيُ.

أمّا الطورُ الثالث فهو الطورُ الأخلاقي، حيث يعلو الإنسانُ على الطبيعةِ، ويتحكّم فيها؛ وبهذا يكون شيلَّر قد أكّد على وسطيّة المرحلة الجمالية؛ وأنها مَعْبرٌ إلى مرحلة أعلى؛ وهي مرحلة الأخلاق. وهنا تتأكد الوظيفةُ المعرفية للفن والجمال، ودورهما في إعداد الإنسانِ لطورٍ مِن الحياة أعلى، وهو الطورُ الأخلاقي ثم السياسي في الدولة.

ويكشفُ الطورُ الأخلاقي عن أنّ في صميم كلّ فردٍ يكمُنُ موجودٌ مثاليٌّ، قِوامه بنيةٌ أخلاقيَّة، وتنشأ الدولةُ بوصفها التعبيرَ القانوني الذي يجمع في وحدةٍ كليّةِ اللبِناتِ المثاليةَ المتشابهةَ التي تؤلّفُ تكوينَ الفرد. والدولةُ المتوازنة تعمل على استيعاب مواطنيها؛ بما لا يُغفل فيه حقّ فردٍ لحسابِ آخر، بل تحترِم - في التعامل مع مواطنيها - الجوانبَ الموضوعيَّة والذاتيَّة على السواء. وبذلك تكون السياسةُ تربيةٌ جماليَّة. 

  طبّق شيلّر نظريتُه على أعماله الأدبيَّة، والناظرُ في مسرحياتِه منذ اللصوص وإلى وليم تل 1786 يجد أنَّ البطلَ يمرّ بهذه الأطوارِ الثلاثة. وتكمن عبقريَّةُ شيلّر في المزج بين الجمال والفن عموماً؛ وبين الأخلاق، في بنية النظرية الأدبيَّة التي سار عليها، والتي طالما عصفَتْ بها - من دون جدوى - الأعاصيرُ محاولةً تدميرها ببثِّ مناهج ودعَوات تخلخِل الوظيفة الأدبيَّة، أو تجعلُ مِن الجمال مَحض مُتعةٍ، بينما هو فكرٌ وعنصرٌ دايناميكي يشتغل في قلبِ المجتمع.

 كتب شيلَّر قصيدتَه العظيمة (نشيد للحريَّة) ولكنّه غيّر الاسمَ فيما بعد إلى (نشيد السعادة) وفحواه: إذا كانت الحريَّةُ هي القدر، فالسعادةَ غايةُ هذا القدر، وأصبحت القصيدة نشيد أوروبا. أُعجب بيتهوفن بهذا النشيد وحمله ثلاثين سنة، قبل أنْ يدخله في سيمفونيته التاسعة (1824) العظيمة، ولم يأخذ بيتهوفن نصّ شيلَّر كما هو، وإنّما قام بتغييره؛ فأضاف إلى مقدمتِه نصَّاً صغيراً جعله يسْري مِن امتدادٍ فوضويّ ليُدخله في عوالمِ شيلَّر المنتظمة، عوالم البحث البشري عن الحريَّة. 

 قضى شيلَّر حياتَه فقيراً، مع أنَّه حاز أعلى المراتبَ، وكان بمقدوره أنْ يحوزَ الغنى، لكنه كان ممتلئاً بغنىً آخر، إنّه غنى الروحِ والواجب، وتحسّسه للجمال ولمسؤوليته تجاه أمتِه التي أسس لها مِهاداً سارت على نهجه فكانت مِن أعظم الأمم. 

اختطف الموتُ شيلَّر بعد معاناةٍ مع المرض، فلم يملك صديقُه جوته سوى أنْ قال: الآن مات نِصفي، وسرعان ما قضى هو الآخرُ في إثره، لكنهما تركا وراءهما أمةً انتشلوها مِن بين رمادٍ يعلوه دُخانُ

المآسي.