أنتيگونا عزيز خيون.. بين التناص والرؤية الإخراجية

ثقافة 2023/01/08
...

 د. حسين علي هارف

 د. حسين علي هارف


وحين حقق الفرنسي جان أنوي (تناصّاً) مع انتيگونا سوفولكيس، فإنه حقق في الوقت ذاته تقاطعا صارخاً معها عِبر تفجير الاسطورة وانتهاكها، فقد صنع بوعي (انتيگونا معاصرة)، تمثل المقاومة الفرنسية للاحتلال الالماني في سنوات الحرب العالمية الثانية. 

وإذا كان الشعب في نص سوفوكليس يتظاهر من أجل إنقاذ (انتيگونا) من عقوبة الموت، فإنه لدى أنوي يطالب وبقوة بموتها.. لتبقى وحيدة وتختار كبطلة أن تنتصر لمبادئها وقيما رافضة أن تلوّثها أيُّ مساومة.

ومن روح انتيگونا الاغريقية وارادة انتيگونا الفرنسية (منتصف القرن العشرين) تّصنع رؤية المخرج 

الدراماتورج) عزيز خيون انتيگونا معاصرة تصلح أن تكون رمزا نسوياً عربياً أو عراقياً، رمزا للإرادة 

الحرة وللاحتجاج والثبات على المبدأ في اللحظة الحاسمة.. اللحظة التي تستوجب قول لا.. ولا شيء غير لا.. دون مساومة أو حلول وسطية. ففي اللحظات الحاسمة التي تداهم البشري - يقول خيون في كلمته بوصفه مخرجا - عليه أن يفعل ما يستطيع تعبيرا عن موقفه الإنساني ودفاعا عن منظومة القيم التي يؤمن بها. أن يقول لا بوجه كل من يعيق إشاعة العدل والحرية والجمال.

ولقد جرّد خيون بوصفه دراماتورج وصاحب رؤية فنية انتيگونا من اسمها التقليدي، بل جرّد كل الشخصيات من اسمائها ومنحهم توصيفات جديدة (مجردة) لتعميمها وفتح دلالاتها وآفاقها زمانيا ومكانياً، فأستعاض عن إسم انتيگونا بـ (هي) وأسمينا بـ (الاخت) وهيمون بـ (الخطيب) وكريون بـ (الحاكم) وحين فرغ خيون من صياغة (انتيگوناه) التي أراد أن تعبّر عن موقفه الوطني حيال الواقع السياسي والاجتماعي الراهن وإيصال رسالته بوصفه فنانا ملتزما وصاحب قضية، قُدّرَ له  أن يعرض (قضيته) في مكان يرتبط بـ (جان انوي) الذي تناصَّ معه.. المعهد الثقافي الفرنسي. لكنه وبذكاء لم يشأ أن يعرض في قاعة المعهد المغلقة وإختار حديقة المعهد وباحته الخارجية ومداخله فضاءً للعرض. وقد عزز حُسن اختياره لهذه الفضاء الشبه المفتوحة بتوظيفات إخراجية موفقة عبر صُنع سينوغرافيا متعددة الأبعاد والمستويات تعاضدت معها. 

إضاءة مصطفى الطويل المصممة بوعي وبدقة (مع خلل تنفيذي محدود) لتحقيق تداخل بين الجمهور وفضاء العرض، إذ وضع منطقة للتمثيل خلف الجمهور (مكان عرش الحاكم!!) وحقق ميزان سينات حركية قرب  الجمهور وفي وسطه وعلى جوانبه، حتى تحول المكان كلّه إلى خشبة مسرح مفتوحة المديات ليضعنا (كلّنا) في خضم المواجهة والتحدي وليكون كلّ منا جزءًا من التجربة وشاهدا ومشاركاً.

لقد نجح المخرج في إشغال المكان واستنطاقه فحقق تنويعات اخراجية عبر توزيع المَشاهد وفقا لأبعادها 

المكانية والدرامية على مفاصل (المكان)، التي توزعت بين حديقة (خُصصت معظمها لجلوس الجمهور، واستخدام جزء منها لمشهد حديقة البيت) والسلّم الملتوي متعدد الطبقات، والباحة العلوية فضلا عن الأبواب والمداخل. وقد كشف المخرج بذلك عن قصدية تداخل منطقة التمثيل مع مكان جلوس الجمهور، الذي أحاط به الممثلون من الجهات كلّها. فثمّ مشهد على يمينهم وآخر على يسارهم وثمّ مشهد يتوسطهم وآخر خلفهم ومشاهد أُخر امام أنظارهم. مشهد بمستوى انظارهم وآخر يعلوها، محققا بذلك إلغاء (الايهام) وكسره ليحقق تغريباً جمالياً جديدا يستثير خيالنا ويوقظ فكرنا، لنعي حقيقة اللعبة التي تجري من حولنا (الآن.. وهنا).

تميزت أزياء ساهرة عويد ومصطفى الطويل بأناقتها وقد اقتربت من الطراز التقليدي (الواقعي) في ما يتعلق بشخصيات (انتيگونا وخطيبها وأختها والمربية)، لكنها اتسمت بشيء من الغرابة و(الافتراضية) في ما يتعلق بشخصية الحاكم ورئيس الحرس والحارسين. وهنا كشف المخرج عن قصدية فكرية تأويلية أخرى في تطابق شخصيات الصنف الأول مع أزيائهم، وإنفصال شخصيات الصنف الثاني (العسكري) عن أزيائهم (جلباب السلطة) الخشن شكلا وملمساً ومضموناً.

برع ماكير العرض في خلق كاركتر مميز لشخصية (رئيس الحرس) فضلا عن الحاكم، في ما لعبت الموسيقى والموسيقى والمؤثرات الصوتية دورا تعبيرياً مؤثرا في إسناد لحظات التوتر والترقب والتشويق، وأسهمت الى حد كبير في تصعيد درامية الحدث وكانت احدى وسائل صنع إيقاع مسرحي محكم ومشوّق، كان المخرج قد  أجاد التحكم به عِبر ممثليه وانتقالاته الزمانية والمكانية.

لقد أجاد المخرج في اختياره لممثليه وإدارتهم بحرفية عالية - وإن طبع اسلوبه الأدائي على بعضهم - بعد أن نجح في استنفار مشاعرهم وقام بتحريكهم بميزان سينات متعددة الاتجاهات والمستويات لأشغال مفاصل المكان المفتوح، ليخلق ايقاعا تصاعديا إذا ما استثنينا لحظات ودقائق الترهل والملل الذي عشناها في المشهد الاستهلالي، الذي كان مطوّلا وثقيلا بعض الشيء. سمر محمد مثلت باقتدار مستندة الى خبرتها الطويلة في المسرح، وشيماء جعفر كانت (داينمو) الحدث المسرحي وبؤرته وتميزت برشاقتها المسرحية وبامتلاكها للتكنيك المسرحي الجسدي، الذي تتطلبه شخصية متمردة مثل (انتيگونا)، لولا أن تعابير وجهها في بعض المشاهد لم تشِب الحالة الانفعالية للشخصية ومواقفها. اما إسراء رفعت فرغم محدودية دورها، إلا أنها استطاعت بإحساسها وانفعالاتها وأدائها الصوتي أن تؤكد أننا أمام طاقة فنية مفعمة بالحس الداخلي، الذي ينعكس على تعابير وجهها وجسدها.. ممثلة موهوبة تعد بالكثير في القادم من العروض.

الممثل مصطفى حبيب قدّم أداءً راكزاً لشخصية الحاكم، واستطاع بجسده وإشاراته وايماءاته أن يجسّد شخصية الطاغية بشكل لافت للانتباه، وقد عبرت ملامح وقسمات وجهه عن صرامة كشفت عن جبروت الشخصية وقسوتها، اما بهاء خيون فقد أجاد التعبير عن مأزق شخصية الخطيب الموزعة بين حبه وانتمائه، رغم تأثره الواضح والطبيعي بنمط اداء مخرجه (الممثل). وإذا كان الحارسان (وئام وافي وصادق الوالي) قد وفّقا في تجسيدهما للشخصيتين الموكلتين اليهما- رغم بعض حالات الادغام التي شابت أداءهما الصوتي- فإنّ عبد الرحمن مهدي (رئيس الحرس) كان العلامة الأبرز في منظومة التمثيل، إذ قدّم (كاركتراً) متميزا لافتا للانتباه وأداءً صوتيا وحركيا منضبط الإيقاع، واستطاع بما قدمه من التماعات ادائية أن يكون (بؤرة) للمشاهد التي كان شريكا بها.

لقد استحضر خيون روح انتيگونا سوفوكليس الاغريقية ووعي انتيگونا انوي الفرنسية، ليمنحها اهاباً معاصرا وروحا انسانية تصلح للأمكنة والأزمنة جميعها، فكان العرض رسالة احتجاجية، وقراءة مشاكسة، ورؤية فنية وجمالية.

لقد شكل العرض علامة مهمة في مسيرة عزيز خيون المسرحية، بوصفها تجربة تنطوي على قدْر من الجِدّة في توظيف الأمكنة المفتوحة، لتفتح المجال من جديد امام عروض المسرح في الهواء الطلق بعيدا عن مقيّدات  مسرح العلبة والأمكنة المغلقة.

وحين حقق الفرنسي جان أنوي (تناصّاً) مع انتيگونا سوفولكيس، فإنه حقق في الوقت ذاته تقاطعا صارخاً معها عِبر تفجير الاسطورة وانتهاكها، فقد صنع بوعي (انتيگونا معاصرة)، تمثل المقاومة الفرنسية للاحتلال الالماني في سنوات الحرب العالمية الثانية. 

وإذا كان الشعب في نص سوفوكليس يتظاهر من أجل إنقاذ (انتيگونا) من عقوبة الموت، فإنه لدى أنوي يطالب وبقوة بموتها.. لتبقى وحيدة وتختار كبطلة أن تنتصر لمبادئها وقيما رافضة أن تلوّثها أيُّ مساومة.

ومن روح انتيگونا الاغريقية وارادة انتيگونا الفرنسية (منتصف القرن العشرين) تّصنع رؤية المخرج 

الدراماتورج) عزيز خيون انتيگونا معاصرة تصلح أن تكون رمزا نسوياً عربياً أو عراقياً، رمزا للإرادة 

الحرة وللاحتجاج والثبات على المبدأ في اللحظة الحاسمة.. اللحظة التي تستوجب قول لا.. ولا شيء غير لا.. دون مساومة أو حلول وسطية. ففي اللحظات الحاسمة التي تداهم البشري - يقول خيون في كلمته بوصفه مخرجا - عليه أن يفعل ما يستطيع تعبيرا عن موقفه الإنساني ودفاعا عن منظومة القيم التي يؤمن بها. أن يقول لا بوجه كل من يعيق إشاعة العدل والحرية والجمال.

ولقد جرّد خيون بوصفه دراماتورج وصاحب رؤية فنية انتيگونا من اسمها التقليدي، بل جرّد كل الشخصيات من اسمائها ومنحهم توصيفات جديدة (مجردة) لتعميمها وفتح دلالاتها وآفاقها زمانيا ومكانياً، فأستعاض عن إسم انتيگونا بـ (هي) وأسمينا بـ (الاخت) وهيمون بـ (الخطيب) وكريون بـ (الحاكم) وحين فرغ خيون من صياغة (انتيگوناه) التي أراد أن تعبّر عن موقفه الوطني حيال الواقع السياسي والاجتماعي الراهن وإيصال رسالته بوصفه فنانا ملتزما وصاحب قضية، قُدّرَ له  أن يعرض (قضيته) في مكان يرتبط بـ (جان انوي) الذي تناصَّ معه.. المعهد الثقافي الفرنسي. لكنه وبذكاء لم يشأ أن يعرض في قاعة المعهد المغلقة وإختار حديقة المعهد وباحته الخارجية ومداخله فضاءً للعرض. وقد عزز حُسن اختياره لهذه الفضاء الشبه المفتوحة بتوظيفات إخراجية موفقة عبر صُنع سينوغرافيا متعددة الأبعاد والمستويات تعاضدت معها. 

إضاءة مصطفى الطويل المصممة بوعي وبدقة (مع خلل تنفيذي محدود) لتحقيق تداخل بين الجمهور وفضاء العرض، إذ وضع منطقة للتمثيل خلف الجمهور (مكان عرش الحاكم!!) وحقق ميزان سينات حركية قرب  الجمهور وفي وسطه وعلى جوانبه، حتى تحول المكان كلّه إلى خشبة مسرح مفتوحة المديات ليضعنا (كلّنا) في خضم المواجهة والتحدي وليكون كلّ منا جزءًا من التجربة وشاهدا ومشاركاً.

لقد نجح المخرج في إشغال المكان واستنطاقه فحقق تنويعات اخراجية عبر توزيع المَشاهد وفقا لأبعادها 

المكانية والدرامية على مفاصل (المكان)، التي توزعت بين حديقة (خُصصت معظمها لجلوس الجمهور، واستخدام جزء منها لمشهد حديقة البيت) والسلّم الملتوي متعدد الطبقات، والباحة العلوية فضلا عن الأبواب والمداخل. وقد كشف المخرج بذلك عن قصدية تداخل منطقة التمثيل مع مكان جلوس الجمهور، الذي أحاط به الممثلون من الجهات كلّها. فثمّ مشهد على يمينهم وآخر على يسارهم وثمّ مشهد يتوسطهم وآخر خلفهم ومشاهد أُخر امام أنظارهم. مشهد بمستوى انظارهم وآخر يعلوها، محققا بذلك إلغاء (الايهام) وكسره ليحقق تغريباً جمالياً جديدا يستثير خيالنا ويوقظ فكرنا، لنعي حقيقة اللعبة التي تجري من حولنا (الآن.. وهنا).

تميزت أزياء ساهرة عويد ومصطفى الطويل بأناقتها وقد اقتربت من الطراز التقليدي (الواقعي) في ما يتعلق بشخصيات (انتيگونا وخطيبها وأختها والمربية)، لكنها اتسمت بشيء من الغرابة و(الافتراضية) في ما يتعلق بشخصية الحاكم ورئيس الحرس والحارسين. وهنا كشف المخرج عن قصدية فكرية تأويلية أخرى في تطابق شخصيات الصنف الأول مع أزيائهم، وإنفصال شخصيات الصنف الثاني (العسكري) عن أزيائهم (جلباب السلطة) الخشن شكلا وملمساً ومضموناً.

برع ماكير العرض في خلق كاركتر مميز لشخصية (رئيس الحرس) فضلا عن الحاكم، في ما لعبت الموسيقى والموسيقى والمؤثرات الصوتية دورا تعبيرياً مؤثرا في إسناد لحظات التوتر والترقب والتشويق، وأسهمت الى حد كبير في تصعيد درامية الحدث وكانت احدى وسائل صنع إيقاع مسرحي محكم ومشوّق، كان المخرج قد  أجاد التحكم به عِبر ممثليه وانتقالاته الزمانية والمكانية.

لقد أجاد المخرج في اختياره لممثليه وإدارتهم بحرفية عالية - وإن طبع اسلوبه الأدائي على بعضهم - بعد أن نجح في استنفار مشاعرهم وقام بتحريكهم بميزان سينات متعددة الاتجاهات والمستويات لأشغال مفاصل المكان المفتوح، ليخلق ايقاعا تصاعديا إذا ما استثنينا لحظات ودقائق الترهل والملل الذي عشناها في المشهد الاستهلالي، الذي كان مطوّلا وثقيلا بعض الشيء. سمر محمد مثلت باقتدار مستندة الى خبرتها الطويلة في المسرح، وشيماء جعفر كانت (داينمو) الحدث المسرحي وبؤرته وتميزت برشاقتها المسرحية وبامتلاكها للتكنيك المسرحي الجسدي، الذي تتطلبه شخصية متمردة مثل (انتيگونا)، لولا أن تعابير وجهها في بعض المشاهد لم تشِب الحالة الانفعالية للشخصية ومواقفها. اما إسراء رفعت فرغم محدودية دورها، إلا أنها استطاعت بإحساسها وانفعالاتها وأدائها الصوتي أن تؤكد أننا أمام طاقة فنية مفعمة بالحس الداخلي، الذي ينعكس على تعابير وجهها وجسدها.. ممثلة موهوبة تعد بالكثير في القادم من العروض.

الممثل مصطفى حبيب قدّم أداءً راكزاً لشخصية الحاكم، واستطاع بجسده وإشاراته وايماءاته أن يجسّد شخصية الطاغية بشكل لافت للانتباه، وقد عبرت ملامح وقسمات وجهه عن صرامة كشفت عن جبروت الشخصية وقسوتها، اما بهاء خيون فقد أجاد التعبير عن مأزق شخصية الخطيب الموزعة بين حبه وانتمائه، رغم تأثره الواضح والطبيعي بنمط اداء مخرجه (الممثل). وإذا كان الحارسان (وئام وافي وصادق الوالي) قد وفّقا في تجسيدهما للشخصيتين الموكلتين اليهما- رغم بعض حالات الادغام التي شابت أداءهما الصوتي- فإنّ عبد الرحمن مهدي (رئيس الحرس) كان العلامة الأبرز في منظومة التمثيل، إذ قدّم (كاركتراً) متميزا لافتا للانتباه وأداءً صوتيا وحركيا منضبط الإيقاع، واستطاع بما قدمه من التماعات ادائية أن يكون (بؤرة) للمشاهد التي كان شريكا بها.

لقد استحضر خيون روح انتيگونا سوفوكليس الاغريقية ووعي انتيگونا انوي الفرنسية، ليمنحها اهاباً معاصرا وروحا انسانية تصلح للأمكنة والأزمنة جميعها، فكان العرض رسالة احتجاجية، وقراءة مشاكسة، ورؤية فنية وجمالية.

لقد شكل العرض علامة مهمة في مسيرة عزيز خيون المسرحية، بوصفها تجربة تنطوي على قدْر من الجِدّة في توظيف الأمكنة المفتوحة، لتفتح المجال من جديد امام عروض المسرح في الهواء الطلق بعيدا عن مقيّدات  مسرح العلبة والأمكنة المغلقة.