هل تعيد الفلسفة توازن الحياة؟

ثقافة 2023/01/08
...

 علي لفتة سعيد


المجتمع وحاجة الفلسفة

المفكر الدكتور حسين الهنداوي قال إن: كل العلوم والفنون في تضاد مع التعصب، أي في جوهرها. لأن «الحرية» لا تسكن في قلبها وحسب، بل لأن الفلسفة سبب وجود هذه العلوم والفنون جميعا. ويرى أن من يقول الحرية يقول الجمال والخير بالضرورة. فالفلسفة هي «أم العلوم» كما أطلق عليها قديماً، وإن جميع العلوم والفنون خرجت من رحم الفلسفة من رياضيات وفيزياء وفلك وطب إلى شعر وموسيقى ورسم ومسرح ورقص كما لاحظ القدماء. 

ويعتقد الهنداوي أنها «أب العلوم» ليس فقط لأنها ظلت تنجب المزيد من العلوم والفنون العظيمة، وليس آخرها علم النفس، أو فلسفات التاريخ، أو العمارة، أو البيئة وغيرها، بل لأن أيّ علم أو فن يرفض الفلسفة أو يتنكّر لها مصيره الوقوع في شرك اللاهوت أو الأيديولوجيا اللذين هما تحديدا، كعقائد دوغمائية وكمؤسسات، أخطر وأهم مصانع التعصّب والتخلف والتحارب. 

ويشير إلى عظماء الفلاسفة الخالدين كأفلاطون وأرسطو والفارابي وابن رشد وديكارت وكانت والجاحظ. وهم موجودون في كل الأمم والحضارات بمستوى أو آخر مثلما هو حال نقيضهم الدوغمائيين، الذين يمهّدون مجانا للجهل والتبعية للغزاة برفعهم لشعار «من تمنطق تزندق» الذي هو حرب هوجاء على عقلنا أولا وأخيرا بما فيه عقلنا الايماني ذاته. 

ويوضح أنه لا نجد هذا الشعار يسعى إلى الدفاع عن الدين كما يزعم أنصاره، إنما يطعنه من الخلف ببساطة، لأنه لا قيمة لإيمان ديني خاصة، يكون مؤسّساً على الجهل، الذي لا يمكن أن يكون إرادة إلهية في كل الأحوال. 

وعن تراجع الفلسفة التي تؤدي إلى انتشار التعصب، يقول إن «هذا في كل المجتمعات البشرية. وهذا التراجع يتطلب المعالجة سريعا وخاصة لحاجتنا الماسة له»، مستدركا أن هذا لن يمنع أن الفلسفة ليست تفكّرًا سهلا بالفعل. لكنه يرى أن ثقافاتنا الراهنة تمتلك أرضية موضوعية خصبة لتطوير الاهتمام بالفلسفة، مؤكدا أنه: لا يمكن لمجتمع اليوم الاستغناء عن الفلسفة التي تدعو أساسا إلى إعلاء العقل وجعله معيار بناء مجتمعٍ تسوده مفاهيم الحرية والمساواة والعدالة والتنمية المستدامة للجميع دون تمييز، ويزدهر فيها الإبداع الخلاق بلا قيود في ظلال الثورة المدهشة في عوالم التكنولوجيا والاتصالات ونشر المعرفة والتقارب الانساني. ومن لا يثق بالفلسفة «لا نثق بعلمه» كما يعلمنا ابن سينا.  

وبحسب رايه فإن ما يلزم التأكيد على أن الفلسفة في تضاد تام مع الطلاسم. هي أن تكون واضحة ومفهومة أو لا معنى لها. لكن هذا لا يعني التسطيح والثرثرة، إنما التعبير العلمي الدقيق وأحيانا المعقد لأداء مهمتها الأساسية التي تميزها، وهي بلورة وإبداع واختراع المفاهيم والمنظورات العامة في وعن كل شأن يخص العقل البشري ببعده الكوني والواقعي في آن، ويطرح سؤالًا، هل ثمة من سيسعى في مستقبل الأيام إلى فرض ازدهار الفلسفة في هذا البلد الأمين على حب «الحكمة»، والذي منحها في خوالي أيام زهو بغداد بيتا؟


العقل العربي

أستاذ الفلسفة بأكاديمية الدار البيضاء الكبرى محمد بوجنال يقول إن «هناك مسلمة تقول: فهم والمساهمة في تغيير مجتمع ما وهنا لدينا المجتمع العربي تقتضي وباللزوم المنطقي، استحضار التفكير الفلسفي بنوعيتيه: المؤسس لتسليع العقول، والمناضل أو قل الملتزم بقضاياها».. ويضيف أنه «من المعلوم أن الفلسفة الأولى يحكم أسسها وفرضياتها ومفاهيمها ونتائجها فكرة الجين النقي; حيث يتم اعتبار كل ما هو خارج دائرتها إنسانا متخلفا ومتوحشا ومهددا للسلم والسلام». وعليه كما يرى بوجنال فإن الشعوب العربية، لعلة عدم انتمائها لهذا العرق الأرقى، تعتبر شعوبا متخلفة، ومهددة للسلم، والسلام، والتقدم. لهذا، فمنطق العقل والدين يوجبان السيطرة عليها وتسليعها اتقاء شرها. أما الفلسفة الثانية، الملتزمة والمناضلة، على أقليتها في عالمنا العربي، فهي ترى أن البناء السليم للصيغة والوعي بمعنى الوجود يقتضي التأسيس لفكر نوعي يسمى بالفكر الملتزم، ملتزم مع ذاته ومع محيطه الذي كلما تحقق، تمكن الإنسان العربي من امتلاك حقه في الوعي بمعنى الوجود. وتبعا لذلك ينتقل بوجنال إلى الافتراض التالي: يخرج العقل العربي من مرحلة الجمود كلما انتقل من عتبة درجة هوية الوجود شبه الصفر إلى درجة هوية الوجود الدنيا، إلى إحدى عتبات درجات هوية الوجود ألإرهاصي، فالعليا وهو ما يشترط التوفر على إحدى الدرجات المتقدمة من الوعي بمعنى الوجود. وهنا يتحدث عن مفهوم الانفجار الذي نحدده في كونه الخلل الذي يصيب نظام العقل العربي الشعوب العربية، والذي يتم تأكيده بفعل الانفجار الفعلي الذي حصل لأحد عناصر الوجود الجامد. وهذا يتطلب كما يخبرنا انصهار الفلسفة العربية الملتزمة في عملية إغناء العقل العربي أو قل إغناء وعيه بمعنى الوجود. ومن هنا يقول إن «كل موجود جامد يمكن أن يصبح موجودا مندمجا في عملية التغيير، أو يصبح مكونا من مكونات هذا العقل». وبلغة أخرى يرى بوجنال أن عملية حدوث التغيير تقتضي بناء عقل جديد كلما توحد الموجود مع الافتراض بفعل العلاقة ومؤشر ارتقاء وعي العقل العربي بمعنى الوجود. ويعتقد أنه من المعلوم أن العقل العربي (الشعوب العربية) عبارة عن بنية لامتناهية العناصر تحكمها قواعد الاحتمال والإمكان كلما توفرت شروط ذلك؛ بل يمكننا الذهاب إلى أبعد من ذلك بالقول بتفاوت درجة هوية وجود عناصر بنية الموجود الفعلي حسب درجة الوعي بمعنى الوجود حيث منها ما هو قريب من درجة الصفر، ومنها من ما زال كامنا أو في حال الإمكان وهو لانهائي العدد، ومنها ما هو في درجة الوجود الأدنى، ومنها ما هو في درجة الوجود الإرهاصي، ومنها ما هو في درجة الوجود الأعلى. ففي هذه الحال، بحسب قوله في عالمنا العربي، كلما انخرطت الفلسفة في العمل على إغناء الوجود الفعلي للعقل العربي عوض الانغماس في الإنشاءات اللغوية، التي لها خلفياتها وهذا ليس موضوعنا – بعناصر جديدة، كلما حدث، وبالضرورة، زلزال، هو تدير لنظام العقل السابق حيث كلما حصل، وفق الشروط المذكورة، يستحيل رفضه. ويطرح سؤال مفاده: فهل العقل العربي – وبالتالي الفلسفة العربية – تتوفر على الدرجة العليا من الوعي ذاك للقول بالانفجار; أنه حالات واستبدالات لم ترق إلى المستوى؟  ويجيب ـ نظريا وعمليا كلما تحذر التزام الفلسفة وانتصرت في انتزاع حقوقها – فضلاً عن شروط أخرى بطبيعة الحال –كلما كنا أمام انتصار عناصر من الوجود الجامد إلى الوجود الفعلي وبالتالي تحقق، بدرجة ما، حظوظ القفزة النوعية. أما عند استمرار الوضع الحالي للفلسفة باستمرار انغماسها في مجرد الإنشاءات اللغوية أو قل تسليعها، فلن يكون العقل العربي (الشعوب العربية)، نظرا لوحشية الأب الرأسمالي ووكلائه، سوى أمام الاستبدال؛ وكلما تم الوعي بمعنى الوجود في أحد أشكاله المتقدمة، وهنا أهمية التزام الفلسفة وغيرها، كلما تكلمنا عن الثورة العربية بعيدا عن كل أشكال الإنشاءات اللغوية الأجور شعوريا أو لا شعوريا، وفي الغالب هما معا.


أصل الوجود

المفكر الدكتور علي المرهج يؤكد منذ البدء إلى حاجتنا لفلسفة تُعيد للذات الفردية توازنها أولًا، على قاعدة “إن الله لا يُغير ما في قوم حتى يُغيروا ما في أنفسهم”، ويقول إنها: فلسفة بدأت مع سقراط في مقولته الشهيرة “إعرف نفسك”، وهي ذاتها عند الإمام علي (ع) والمفكرين والمسلمين العرب والمسلمين، دواؤك منك وما تشعر.. وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر. 

ويشير إلى أن توازن الذات الفردية يدفع بالنتيجة إلا توازن الحياة الاجتماعية، ولا أظن أن هذا التوازن يتحقّق إلّا في تحرير الذات من قيود المورث والتقاليد الساكنة، واستنهاض الحيوي والديناميكي فيها بعيدًا عن التعصب والتقوقع حول الأنا الفردية أو الجماعاتية، لكنه يستدرك من أنه قد تكون الفلسفة بكل ما في تعريفها من تعدّد بحسب كل فيلسوف، بل وبحسب كل اتجاه فلسفي، ولكن بوصف تقسيمها التقليدي لـ “فلسفة نظرية، والفلسفة العملية”، ولأن الجزء الأخص بالإنسان والمجتمع هو بشقها الثاني “الفلسفة العلمية”، فستكون هذه هي الأقرب لوصفها بأنها “فلسفة اجتماعية” في تأصيلها ونشأتها، رغم أن نشأتها “النظرية” مرتبطة بالبحث عن أصل الوجود، لأنها السؤال عن أسباب الوجود والمعرفة والقيم. 

بمعنى كما يقول مرهج إن: مهمة الفيلسوف هي طرح الأسئلة للوصول للحقيقة، لذا فهي الأقرب لمتبنيات الإنسان الذي يتّخذ من العقل أداة لمعرفة الحقيقة. لهذا السبب سُميت أم العلوم، وقد وصفها ديكارت في كتابه “مقال في المنهج بقوله: “الفلسفة هي بمثابة شجرة: شرايينها الميتافيزيقا، جذعها الفيزياء، وأغصانها الميكانيكا والطب والأخلا”.  يمضي بقوله، بعد أن بدأت كل العلوم بطرح السؤال الفلسفي عن أصل الحياة وقيمتها وكيفية معرفتها، وبعد أن اتّسعت الأبحاث في كلّ مجال علمي وتطورت المناهج، وتمكّن علماء كل علم من وضع ملامح واضحة لما سموه علماً، استقلت كثير من العلوم عن الفلسفة، ومنها علم الاجتماع الذي استقل عن الفلسفة (بعد أن تجمعت لدى علمائه مجموعة من الحقائق والمعطيات التي يُمكن الاستعانة بها في اقامة النظريات الاجتماعية). 

ويرى أيضا أن للفلسفة تأثيراً في حياة الشعوب التي نشأت وتطوّرت فيها. وقد يكون سقراط أول الفلاسفة الذين جعلوا منها أسلوب حياة تبدأ من الفرد (الذات) وتوازنها بين الفضيلة والعلم، لتكون أنموذج حياة للذين حاولوا الجمع بين طريقة التفكير الفلسفي والسلوك المعاش في الحياة اليومية، فما كانت مرادفته بين المعرفة والفضيلة سوى “فلسفة تطبيقية” أو “فلسفة مُطبقة” نجدها شاخصة في سقراط ذاته، وهو يعيش ليُعلم الناس المعرفة والفضيلة، وقد أجاد في ذلك، وهو مُجيد في استجابته للقانون الأثيني الذي حكم عليه بالإعدام لاتهامه بأنه يُخرب عقول الشباب، وأذعن لهذا القانون الجائر ليُثبت أنه مع القانون ومع العدالة. وبحسب الدكتور مرهج فان مهمة الفلسفة عند أغلب فلاسفتنا المسلمين هي معرفة الناس طريق السعادة، مع الكندي في “رسالة في الفلسفة الأولى والفارابي في رسالتيه “التنبيه على سبيل السعادة” و”تحصيل السعادة وابن سينا في كتابه “النجاة” ومسكوية في كتبه “تهذيب الأخلاق” و”الفوز الأصغر” و “الفوز الأكبر” وأوب الحسن العامري في كتابه “السعادة والإسعاد” وأغلب ما كتبه التوحيدي والجاحظ، ولكن كيف تخدم الفلسفة في معرفة سبل السعادة، الجواب حينما يعي المجتمع وصناع القرار فيه أهميتها في تنمية الوعي النقدي وحرية التفكير خارج مهيمنات توظيف القداسة لصالح وعاظ السلاطين ومن هم على

شاكلتهم.


واقعيَّة الفلسفة 

المفكّر الدّكتور علي حسين يوسف يقول، إن نتفلسف فإنّ ذلك مدعاة لأن يكون فرصةً لمراجعة الذات في علاقتها مع الآخر في زمن يحمل من التشويش ما لا يحمله أي زمن آخر، كذلك هي فرصة للسعي نحو قراءة الوجود بحلته المعاصرة، بوصفه ذلك معرفة تتزيا برداء الحياة ثم أن ذلك الصنيع أيضا سؤال أكبر حول طبيعة المعرفة المرجوة لزمننا بتمثلاته الثلاثة؛ الماضي والحاضر والمستقبل بوصفنا كائنات نعاني تشويشا في راهنية الهوية المبتغاة لذواتنا وأوطاننا.

ولهذا يرى يوسف أننا في ذلك كله يفترض أن لا نبتغي الإشهار في تفلسفنا، بل هو دليل انشغال متجدد بوجودنا الراهن الذي نحرص كل الحرص أن نسهم في تحديد ملامحه ووضع مثابات أولى لرؤى جديد تتسم بشكلها العضوي، ونتقصد إحياء وعي غير متعال ولا منفصل عن الحياة، وعي منظومي يأخذ ـ في الوقت ذاته ـ بنظر الاعتبار أن الفلسفة لم تعد قابعة في صومعات نائية ولم تعد مضنونا بها إلّا لأهلها فقد بات الجميع ــ وعلى الأقل هذا ما نسعى له ــ فلاسفة بمعنى من المعاني وما على الشغل الفلسفي المبتغى إلّا لملمة ذلك الشتات لتفخر الفلسفة يوما بأن زادها يعتمد قضايا الإنسان ويناوش همومه، وهذا غاية ما يجب أن نسعى له .

وبحسب يوسف أيضاً فإن الفلسفة دعوة صريحة لكل من يفكّر في قضايا الإنسان والوجود بصورة جديّة، بصورة تجعلنا نستشعر بأنّ مسؤولية تأثيث الوجود فكريّاً يفترض أن تتوزّع علينا جميعا بالقدر نفسه، ومن ثم فإن الفلسفة في زمننا الراهن تعد مشغلا رحبا لكلّ من شغله السّؤال الوجودي في لحظة ما.

ويعود الدكتور علي إلى الأصل فيقول، مُذ دهشِ الإنسان في الزمن الأوّلِ، وتعجّب، وخافَ على وجوده فإنّه دخل حلبةَ التفلسفِ، أدركَ ذلك أم لم يدرك، فالفلسفة مرهونة برهانات النّفسِ وموقفها من الوجودِ، تلكَ الرهانات تؤثّر بالواقعِ الثقافيّ السائد وتتأثر به ـ في الوقتِ ذاته، لذلك فالتفلسف يدور مدار الأسئلةِ الملحّة المُنتجة.. ولهذا يرى أنه يجب إلَّا تحوَّل الأمر إلى سفسطة لا طائلَ من ورائها، لذا فإن السؤال الفلسفي اليوم قد يكون هو السؤال ذاته عند الإنسان قديما لكن لغته قد تغيرت مثلما تغير مدار موضوعه.

ومن أجل ما تقدم فإن الفلسفة كما يرى الدكتور علي يفترض أن لا تدخل نفسها في نقيضة التكاسل والتهاون بمعنى آخر يفترض أن تكون واقعية تنطلق بهمة عالية لتشييد رؤى مستقبلية واعدة وفي الوقت ذاته يجب أن لا تأخذها نزوات الغرور في قراءة الوجود فتذهب في ادعاءات كبيرة تخالف مسلمات المنطق كما كان أسلافنا من الفلاسفة يشيّدون الصّروح الفكريّة العملاقة.


دور الأم

استاذ الفلسفة الاسلامية في آداب المستنصرية الدكتور رحيم محمد الساعدييقول إن: الفلسفة غالبا هي ابنة البيئة فهي تكشف عن نفسها من خلال البيئة، ولذلك نراها احيانا تتكيف في بيئة ما وتنحسر في أخرى .ويضيف انه بوصفها مادّة مؤمّمة مثل الهواء والماء فإنها مباحة للجميع، حتى مع تضييق الخناق عليها من قبل أهلها، مع هذا فإن الفلسفة تمتهن دور الأم بالنسبة إلى العلوم جميعا، والتي انفصلت عنها تباعًا بدءا من أهم الأبناء وهو الاقتصاد وانتهاء بالابن الأنيق علم النفس، وهذه الأم لم تترك دور التضحية على مرّ التاريخ، والتعذر كما يراه الساعدي هو أن الغيبيات التي تعمل على انحسار الفلسفة هو أمر غير صحيح، لأن أصل الفلسفة هي الميتافيزيقا وهذه الأخيرة من جنس الغيب. ولا تقاطع بين الغيبيات والفلسفة، بل أن الجانب الحيوي في الفلسفة وهو الدهشة والسؤال يستمد وجوده من الغيبيات، وعما إذا كان هناك تراجع  للفلسفة قاد للتعصب، فذلك أمر يرد تماما، لأن التعصب يقود إلى حجب التعقل والانحياز،  مع أن تقدّمها بعض الأحيان قد يقود للتعصب والتعالي ايضا، لهذا يشير إلى أن بعض الفلسفة ساهم بالتنظير للحكم الخطأ كما فعل مكيافلي، وهو تفكير صعب من دون شك، فالفلسفة تمثل البنية التحتية للفكر الإنساني، وتمثل تاريخاً مشذباً، يخضع للاختبار على مر السنوات وهذا الاختبار والتحليل يشمل العقل والملكات الانسانية، والقوانين، وسواها، لكن بالإمكان تخفيف هذه الصعوبة وتطويعها لدرجة الاستفادة منه في بنية كل مرافق إحياء الدولة واستدامة التخطيط والتنظير  للإدارة والاقتصاد ونظريات  التربية والتعليم، وبحسب الساعدي فإنه يتوجّب أن تُقَدّم الفلسفة إلى الإنسان عموما والى المواطن العراقي بشكل خاص لا بوصفها  سيدة للعزلة أو منحدرًا كارزميا، أو فخّا للتعالي أو صنعة لا يجيدها إلا أهل الاختصاص ، بل بوصف الفلسفة أمّا للجميع، وذلك خدمة لكل المجتمع. 

ويضيف ايضا أنه يجب أن يقدم منها -على الاقل- الجانب المختص بالتطبيق وتغيير خلل المجتمع، وبحسب قوله فإن تقدّم الفلسفة باعتبارها أيقونة للتراث أو رمزًا يدلّ على تاريخ فقط، أو يمكن تسويقها بمثابة الحل الذي يمكنه معالجة الخلل الاجتماعي والنفسي والعلمي والتربوي والفني والسياسي وغيرها، وخلاف ذلك فهي صنعة تراثية لا تختلف عن صناعة الحلوى أو منتجات سوق الصفافير.


المجتمع وحاجة الفلسفة

المفكر الدكتور حسين الهنداوي قال إن: كل العلوم والفنون في تضاد مع التعصب، أي في جوهرها. لأن «الحرية» لا تسكن في قلبها وحسب، بل لأن الفلسفة سبب وجود هذه العلوم والفنون جميعا. ويرى أن من يقول الحرية يقول الجمال والخير بالضرورة. فالفلسفة هي «أم العلوم» كما أطلق عليها قديماً، وإن جميع العلوم والفنون خرجت من رحم الفلسفة من رياضيات وفيزياء وفلك وطب إلى شعر وموسيقى ورسم ومسرح ورقص كما لاحظ القدماء. 

ويعتقد الهنداوي أنها «أب العلوم» ليس فقط لأنها ظلت تنجب المزيد من العلوم والفنون العظيمة، وليس آخرها علم النفس، أو فلسفات التاريخ، أو العمارة، أو البيئة وغيرها، بل لأن أيّ علم أو فن يرفض الفلسفة أو يتنكّر لها مصيره الوقوع في شرك اللاهوت أو الأيديولوجيا اللذين هما تحديدا، كعقائد دوغمائية وكمؤسسات، أخطر وأهم مصانع التعصّب والتخلف والتحارب. 

ويشير إلى عظماء الفلاسفة الخالدين كأفلاطون وأرسطو والفارابي وابن رشد وديكارت وكانت والجاحظ. وهم موجودون في كل الأمم والحضارات بمستوى أو آخر مثلما هو حال نقيضهم الدوغمائيين، الذين يمهّدون مجانا للجهل والتبعية للغزاة برفعهم لشعار «من تمنطق تزندق» الذي هو حرب هوجاء على عقلنا أولا وأخيرا بما فيه عقلنا الايماني ذاته. 

ويوضح أنه لا نجد هذا الشعار يسعى إلى الدفاع عن الدين كما يزعم أنصاره، إنما يطعنه من الخلف ببساطة، لأنه لا قيمة لإيمان ديني خاصة، يكون مؤسّساً على الجهل، الذي لا يمكن أن يكون إرادة إلهية في كل الأحوال. 

وعن تراجع الفلسفة التي تؤدي إلى انتشار التعصب، يقول إن «هذا في كل المجتمعات البشرية. وهذا التراجع يتطلب المعالجة سريعا وخاصة لحاجتنا الماسة له»، مستدركا أن هذا لن يمنع أن الفلسفة ليست تفكّرًا سهلا بالفعل. لكنه يرى أن ثقافاتنا الراهنة تمتلك أرضية موضوعية خصبة لتطوير الاهتمام بالفلسفة، مؤكدا أنه: لا يمكن لمجتمع اليوم الاستغناء عن الفلسفة التي تدعو أساسا إلى إعلاء العقل وجعله معيار بناء مجتمعٍ تسوده مفاهيم الحرية والمساواة والعدالة والتنمية المستدامة للجميع دون تمييز، ويزدهر فيها الإبداع الخلاق بلا قيود في ظلال الثورة المدهشة في عوالم التكنولوجيا والاتصالات ونشر المعرفة والتقارب الانساني. ومن لا يثق بالفلسفة «لا نثق بعلمه» كما يعلمنا ابن سينا.  

وبحسب رايه فإن ما يلزم التأكيد على أن الفلسفة في تضاد تام مع الطلاسم. هي أن تكون واضحة ومفهومة أو لا معنى لها. لكن هذا لا يعني التسطيح والثرثرة، إنما التعبير العلمي الدقيق وأحيانا المعقد لأداء مهمتها الأساسية التي تميزها، وهي بلورة وإبداع واختراع المفاهيم والمنظورات العامة في وعن كل شأن يخص العقل البشري ببعده الكوني والواقعي في آن، ويطرح سؤالًا، هل ثمة من سيسعى في مستقبل الأيام إلى فرض ازدهار الفلسفة في هذا البلد الأمين على حب «الحكمة»، والذي منحها في خوالي أيام زهو بغداد بيتا؟


العقل العربي

أستاذ الفلسفة بأكاديمية الدار البيضاء الكبرى محمد بوجنال يقول إن «هناك مسلمة تقول: فهم والمساهمة في تغيير مجتمع ما وهنا لدينا المجتمع العربي تقتضي وباللزوم المنطقي، استحضار التفكير الفلسفي بنوعيتيه: المؤسس لتسليع العقول، والمناضل أو قل الملتزم بقضاياها».. ويضيف أنه «من المعلوم أن الفلسفة الأولى يحكم أسسها وفرضياتها ومفاهيمها ونتائجها فكرة الجين النقي; حيث يتم اعتبار كل ما هو خارج دائرتها إنسانا متخلفا ومتوحشا ومهددا للسلم والسلام». وعليه كما يرى بوجنال فإن الشعوب العربية، لعلة عدم انتمائها لهذا العرق الأرقى، تعتبر شعوبا متخلفة، ومهددة للسلم، والسلام، والتقدم. لهذا، فمنطق العقل والدين يوجبان السيطرة عليها وتسليعها اتقاء شرها. أما الفلسفة الثانية، الملتزمة والمناضلة، على أقليتها في عالمنا العربي، فهي ترى أن البناء السليم للصيغة والوعي بمعنى الوجود يقتضي التأسيس لفكر نوعي يسمى بالفكر الملتزم، ملتزم مع ذاته ومع محيطه الذي كلما تحقق، تمكن الإنسان العربي من امتلاك حقه في الوعي بمعنى الوجود. وتبعا لذلك ينتقل بوجنال إلى الافتراض التالي: يخرج العقل العربي من مرحلة الجمود كلما انتقل من عتبة درجة هوية الوجود شبه الصفر إلى درجة هوية الوجود الدنيا، إلى إحدى عتبات درجات هوية الوجود ألإرهاصي، فالعليا وهو ما يشترط التوفر على إحدى الدرجات المتقدمة من الوعي بمعنى الوجود. وهنا يتحدث عن مفهوم الانفجار الذي نحدده في كونه الخلل الذي يصيب نظام العقل العربي الشعوب العربية، والذي يتم تأكيده بفعل الانفجار الفعلي الذي حصل لأحد عناصر الوجود الجامد. وهذا يتطلب كما يخبرنا انصهار الفلسفة العربية الملتزمة في عملية إغناء العقل العربي أو قل إغناء وعيه بمعنى الوجود. ومن هنا يقول إن «كل موجود جامد يمكن أن يصبح موجودا مندمجا في عملية التغيير، أو يصبح مكونا من مكونات هذا العقل». وبلغة أخرى يرى بوجنال أن عملية حدوث التغيير تقتضي بناء عقل جديد كلما توحد الموجود مع الافتراض بفعل العلاقة ومؤشر ارتقاء وعي العقل العربي بمعنى الوجود. ويعتقد أنه من المعلوم أن العقل العربي (الشعوب العربية) عبارة عن بنية لامتناهية العناصر تحكمها قواعد الاحتمال والإمكان كلما توفرت شروط ذلك؛ بل يمكننا الذهاب إلى أبعد من ذلك بالقول بتفاوت درجة هوية وجود عناصر بنية الموجود الفعلي حسب درجة الوعي بمعنى الوجود حيث منها ما هو قريب من درجة الصفر، ومنها من ما زال كامنا أو في حال الإمكان وهو لانهائي العدد، ومنها ما هو في درجة الوجود الأدنى، ومنها ما هو في درجة الوجود الإرهاصي، ومنها ما هو في درجة الوجود الأعلى. ففي هذه الحال، بحسب قوله في عالمنا العربي، كلما انخرطت الفلسفة في العمل على إغناء الوجود الفعلي للعقل العربي عوض الانغماس في الإنشاءات اللغوية، التي لها خلفياتها وهذا ليس موضوعنا – بعناصر جديدة، كلما حدث، وبالضرورة، زلزال، هو تدير لنظام العقل السابق حيث كلما حصل، وفق الشروط المذكورة، يستحيل رفضه. ويطرح سؤال مفاده: فهل العقل العربي – وبالتالي الفلسفة العربية – تتوفر على الدرجة العليا من الوعي ذاك للقول بالانفجار; أنه حالات واستبدالات لم ترق إلى المستوى؟  ويجيب ـ نظريا وعمليا كلما تحذر التزام الفلسفة وانتصرت في انتزاع حقوقها – فضلاً عن شروط أخرى بطبيعة الحال –كلما كنا أمام انتصار عناصر من الوجود الجامد إلى الوجود الفعلي وبالتالي تحقق، بدرجة ما، حظوظ القفزة النوعية. أما عند استمرار الوضع الحالي للفلسفة باستمرار انغماسها في مجرد الإنشاءات اللغوية أو قل تسليعها، فلن يكون العقل العربي (الشعوب العربية)، نظرا لوحشية الأب الرأسمالي ووكلائه، سوى أمام الاستبدال؛ وكلما تم الوعي بمعنى الوجود في أحد أشكاله المتقدمة، وهنا أهمية التزام الفلسفة وغيرها، كلما تكلمنا عن الثورة العربية بعيدا عن كل أشكال الإنشاءات اللغوية الأجور شعوريا أو لا شعوريا، وفي الغالب هما معا.


أصل الوجود

المفكر الدكتور علي المرهج يؤكد منذ البدء إلى حاجتنا لفلسفة تُعيد للذات الفردية توازنها أولًا، على قاعدة “إن الله لا يُغير ما في قوم حتى يُغيروا ما في أنفسهم”، ويقول إنها: فلسفة بدأت مع سقراط في مقولته الشهيرة “إعرف نفسك”، وهي ذاتها عند الإمام علي (ع) والمفكرين والمسلمين العرب والمسلمين، دواؤك منك وما تشعر.. وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر. 

ويشير إلى أن توازن الذات الفردية يدفع بالنتيجة إلا توازن الحياة الاجتماعية، ولا أظن أن هذا التوازن يتحقّق إلّا في تحرير الذات من قيود المورث والتقاليد الساكنة، واستنهاض الحيوي والديناميكي فيها بعيدًا عن التعصب والتقوقع حول الأنا الفردية أو الجماعاتية، لكنه يستدرك من أنه قد تكون الفلسفة بكل ما في تعريفها من تعدّد بحسب كل فيلسوف، بل وبحسب كل اتجاه فلسفي، ولكن بوصف تقسيمها التقليدي لـ “فلسفة نظرية، والفلسفة العملية”، ولأن الجزء الأخص بالإنسان والمجتمع هو بشقها الثاني “الفلسفة العلمية”، فستكون هذه هي الأقرب لوصفها بأنها “فلسفة اجتماعية” في تأصيلها ونشأتها، رغم أن نشأتها “النظرية” مرتبطة بالبحث عن أصل الوجود، لأنها السؤال عن أسباب الوجود والمعرفة والقيم. 

بمعنى كما يقول مرهج إن: مهمة الفيلسوف هي طرح الأسئلة للوصول للحقيقة، لذا فهي الأقرب لمتبنيات الإنسان الذي يتّخذ من العقل أداة لمعرفة الحقيقة. لهذا السبب سُميت أم العلوم، وقد وصفها ديكارت في كتابه “مقال في المنهج بقوله: “الفلسفة هي بمثابة شجرة: شرايينها الميتافيزيقا، جذعها الفيزياء، وأغصانها الميكانيكا والطب والأخلا”.  يمضي بقوله، بعد أن بدأت كل العلوم بطرح السؤال الفلسفي عن أصل الحياة وقيمتها وكيفية معرفتها، وبعد أن اتّسعت الأبحاث في كلّ مجال علمي وتطورت المناهج، وتمكّن علماء كل علم من وضع ملامح واضحة لما سموه علماً، استقلت كثير من العلوم عن الفلسفة، ومنها علم الاجتماع الذي استقل عن الفلسفة (بعد أن تجمعت لدى علمائه مجموعة من الحقائق والمعطيات التي يُمكن الاستعانة بها في اقامة النظريات الاجتماعية). 

ويرى أيضا أن للفلسفة تأثيراً في حياة الشعوب التي نشأت وتطوّرت فيها. وقد يكون سقراط أول الفلاسفة الذين جعلوا منها أسلوب حياة تبدأ من الفرد (الذات) وتوازنها بين الفضيلة والعلم، لتكون أنموذج حياة للذين حاولوا الجمع بين طريقة التفكير الفلسفي والسلوك المعاش في الحياة اليومية، فما كانت مرادفته بين المعرفة والفضيلة سوى “فلسفة تطبيقية” أو “فلسفة مُطبقة” نجدها شاخصة في سقراط ذاته، وهو يعيش ليُعلم الناس المعرفة والفضيلة، وقد أجاد في ذلك، وهو مُجيد في استجابته للقانون الأثيني الذي حكم عليه بالإعدام لاتهامه بأنه يُخرب عقول الشباب، وأذعن لهذا القانون الجائر ليُثبت أنه مع القانون ومع العدالة. وبحسب الدكتور مرهج فان مهمة الفلسفة عند أغلب فلاسفتنا المسلمين هي معرفة الناس طريق السعادة، مع الكندي في “رسالة في الفلسفة الأولى والفارابي في رسالتيه “التنبيه على سبيل السعادة” و”تحصيل السعادة وابن سينا في كتابه “النجاة” ومسكوية في كتبه “تهذيب الأخلاق” و”الفوز الأصغر” و “الفوز الأكبر” وأوب الحسن العامري في كتابه “السعادة والإسعاد” وأغلب ما كتبه التوحيدي والجاحظ، ولكن كيف تخدم الفلسفة في معرفة سبل السعادة، الجواب حينما يعي المجتمع وصناع القرار فيه أهميتها في تنمية الوعي النقدي وحرية التفكير خارج مهيمنات توظيف القداسة لصالح وعاظ السلاطين ومن هم على

شاكلتهم.


واقعيَّة الفلسفة 

المفكّر الدّكتور علي حسين يوسف يقول، إن نتفلسف فإنّ ذلك مدعاة لأن يكون فرصةً لمراجعة الذات في علاقتها مع الآخر في زمن يحمل من التشويش ما لا يحمله أي زمن آخر، كذلك هي فرصة للسعي نحو قراءة الوجود بحلته المعاصرة، بوصفه ذلك معرفة تتزيا برداء الحياة ثم أن ذلك الصنيع أيضا سؤال أكبر حول طبيعة المعرفة المرجوة لزمننا بتمثلاته الثلاثة؛ الماضي والحاضر والمستقبل بوصفنا كائنات نعاني تشويشا في راهنية الهوية المبتغاة لذواتنا وأوطاننا.

ولهذا يرى يوسف أننا في ذلك كله يفترض أن لا نبتغي الإشهار في تفلسفنا، بل هو دليل انشغال متجدد بوجودنا الراهن الذي نحرص كل الحرص أن نسهم في تحديد ملامحه ووضع مثابات أولى لرؤى جديد تتسم بشكلها العضوي، ونتقصد إحياء وعي غير متعال ولا منفصل عن الحياة، وعي منظومي يأخذ ـ في الوقت ذاته ـ بنظر الاعتبار أن الفلسفة لم تعد قابعة في صومعات نائية ولم تعد مضنونا بها إلّا لأهلها فقد بات الجميع ــ وعلى الأقل هذا ما نسعى له ــ فلاسفة بمعنى من المعاني وما على الشغل الفلسفي المبتغى إلّا لملمة ذلك الشتات لتفخر الفلسفة يوما بأن زادها يعتمد قضايا الإنسان ويناوش همومه، وهذا غاية ما يجب أن نسعى له .

وبحسب يوسف أيضاً فإن الفلسفة دعوة صريحة لكل من يفكّر في قضايا الإنسان والوجود بصورة جديّة، بصورة تجعلنا نستشعر بأنّ مسؤولية تأثيث الوجود فكريّاً يفترض أن تتوزّع علينا جميعا بالقدر نفسه، ومن ثم فإن الفلسفة في زمننا الراهن تعد مشغلا رحبا لكلّ من شغله السّؤال الوجودي في لحظة ما.

ويعود الدكتور علي إلى الأصل فيقول، مُذ دهشِ الإنسان في الزمن الأوّلِ، وتعجّب، وخافَ على وجوده فإنّه دخل حلبةَ التفلسفِ، أدركَ ذلك أم لم يدرك، فالفلسفة مرهونة برهانات النّفسِ وموقفها من الوجودِ، تلكَ الرهانات تؤثّر بالواقعِ الثقافيّ السائد وتتأثر به ـ في الوقتِ ذاته، لذلك فالتفلسف يدور مدار الأسئلةِ الملحّة المُنتجة.. ولهذا يرى أنه يجب إلَّا تحوَّل الأمر إلى سفسطة لا طائلَ من ورائها، لذا فإن السؤال الفلسفي اليوم قد يكون هو السؤال ذاته عند الإنسان قديما لكن لغته قد تغيرت مثلما تغير مدار موضوعه.

ومن أجل ما تقدم فإن الفلسفة كما يرى الدكتور علي يفترض أن لا تدخل نفسها في نقيضة التكاسل والتهاون بمعنى آخر يفترض أن تكون واقعية تنطلق بهمة عالية لتشييد رؤى مستقبلية واعدة وفي الوقت ذاته يجب أن لا تأخذها نزوات الغرور في قراءة الوجود فتذهب في ادعاءات كبيرة تخالف مسلمات المنطق كما كان أسلافنا من الفلاسفة يشيّدون الصّروح الفكريّة العملاقة.


دور الأم

استاذ الفلسفة الاسلامية في آداب المستنصرية الدكتور رحيم محمد الساعدييقول إن: الفلسفة غالبا هي ابنة البيئة فهي تكشف عن نفسها من خلال البيئة، ولذلك نراها احيانا تتكيف في بيئة ما وتنحسر في أخرى .ويضيف انه بوصفها مادّة مؤمّمة مثل الهواء والماء فإنها مباحة للجميع، حتى مع تضييق الخناق عليها من قبل أهلها، مع هذا فإن الفلسفة تمتهن دور الأم بالنسبة إلى العلوم جميعا، والتي انفصلت عنها تباعًا بدءا من أهم الأبناء وهو الاقتصاد وانتهاء بالابن الأنيق علم النفس، وهذه الأم لم تترك دور التضحية على مرّ التاريخ، والتعذر كما يراه الساعدي هو أن الغيبيات التي تعمل على انحسار الفلسفة هو أمر غير صحيح، لأن أصل الفلسفة هي الميتافيزيقا وهذه الأخيرة من جنس الغيب. ولا تقاطع بين الغيبيات والفلسفة، بل أن الجانب الحيوي في الفلسفة وهو الدهشة والسؤال يستمد وجوده من الغيبيات، وعما إذا كان هناك تراجع  للفلسفة قاد للتعصب، فذلك أمر يرد تماما، لأن التعصب يقود إلى حجب التعقل والانحياز،  مع أن تقدّمها بعض الأحيان قد يقود للتعصب والتعالي ايضا، لهذا يشير إلى أن بعض الفلسفة ساهم بالتنظير للحكم الخطأ كما فعل مكيافلي، وهو تفكير صعب من دون شك، فالفلسفة تمثل البنية التحتية للفكر الإنساني، وتمثل تاريخاً مشذباً، يخضع للاختبار على مر السنوات وهذا الاختبار والتحليل يشمل العقل والملكات الانسانية، والقوانين، وسواها، لكن بالإمكان تخفيف هذه الصعوبة وتطويعها لدرجة الاستفادة منه في بنية كل مرافق إحياء الدولة واستدامة التخطيط والتنظير  للإدارة والاقتصاد ونظريات  التربية والتعليم، وبحسب الساعدي فإنه يتوجّب أن تُقَدّم الفلسفة إلى الإنسان عموما والى المواطن العراقي بشكل خاص لا بوصفها  سيدة للعزلة أو منحدرًا كارزميا، أو فخّا للتعالي أو صنعة لا يجيدها إلا أهل الاختصاص ، بل بوصف الفلسفة أمّا للجميع، وذلك خدمة لكل المجتمع. 

ويضيف ايضا أنه يجب أن يقدم منها -على الاقل- الجانب المختص بالتطبيق وتغيير خلل المجتمع، وبحسب قوله فإن تقدّم الفلسفة باعتبارها أيقونة للتراث أو رمزًا يدلّ على تاريخ فقط، أو يمكن تسويقها بمثابة الحل الذي يمكنه معالجة الخلل الاجتماعي والنفسي والعلمي والتربوي والفني والسياسي وغيرها، وخلاف ذلك فهي صنعة تراثية لا تختلف عن صناعة الحلوى أو منتجات سوق الصفافير.