عشر سنوات من الحياة والنزوح والتحولات الدراماتيكيَّة

ثقافة 2023/01/09
...

  دمشق: علي العقباني

 أزمة اللاجئين السوريين والتي بدأت مع نهاية العام 2011 وما زالت قائمة حتى اليوم، وغيرهم من اللاجئين في العالم باعتقادي هي واحدة من أهم وأكبر الأزمات التي واجهت الإنسانية على الأقل في الخمسين أو السبعين سنة الأخيرة، والسينما بأنواعها لم تكن بعيدة عن تناول تلك الحالة كل وفقاً لرؤيته وتوجهه السياسي وموقفه. المخرجة والكاتبة نورة كيفوركيان وهي مخرجة أفلام كندية أرمنية، من أصول لبنانية سورية، ظهرت لأول مرة في صناعة الأفلام مع الفيلم القصير "حجاب مكشوف" الحائز على العديد من الجوائز، يليه الفيلم الوثائقي الروائي "عنجر: زهور، ماعز وأبطال".

فضلا عن الفيلم الدرامي الهجين {23 كيلومتر} والذي عرض في المسابقة الرسمية في مهرجان كارلوفي فاري.

الفيلم الوثائقي الطويل "بطاطا" لـنورة كيفوركيان والذي حصد مؤخراً "التانيت الذهبي" للفيلم الوثائقي الطويل ونال أيضًا جائزة لينا بن مهني لحقوق الإنسان، خلال فعاليات مهرجان أيام قرطاج السينمائي الأخير في تونس، وعبر كاميرا تميزت بالصدق والحميمية والدفء والبساطة استطاعت وعبر عشر سنوات من التصوير والمتابعة الخالية من الشعارات والمباشرة ومحاولة الاستنطاق، أن تنجز هذا الفيلم الإنساني المميز، والذي قاربت مدته الساعتين، وهو يرصد ويؤرخ ويعيش عشر سنين من الهجرة لأسرة سورية، من خلال تتبع حياة الصبية "ماريا" السورية التي تعمل في مزارع البطاطا مع أبيها وأخريات، خلال عقد من الزمان تمر خلاله أحداث ووقائع وتحولات، موت وحياة وزواج ونزوح وحرب وتغير ديموغرافيا المكان.

يؤرخ الفيلم عبر عشر سنوات حياة وكفاح ومعاناة فتاة سورية تدعى" ماريا" وأسرتها من الجد والأب والإخوة والأقارب والعاملات في حقول البطاطا في منطقة قريبة من الحدود بين سوريا ولبنان، متابعة استمرت عقداً من الزمن لتلك العلاقات التي نشأت في هذا المكان بين مالك الحقل المزارع الأرمني اللبناني موسى (موفسيس دوداكليان) ووالد ماريا "أبو جميل"، اللذين أقاما صداقة من نوع خاص ومميز على مدار سنوات عديدة من العمل معًا، وبينه وبين ماريا والعمال السوريين المهاجرين إلى تلك البقعة من العالم للعمل فيها.

بشكل فني مميز ترسم المخرجة وقائع فيلمها المميز، متنقلة بين ماريا والحقل، وطبيعة العمل الشاق والمنهك للعاملين في مهنة زراعة وحصاد موسم البطاطا، وحياة الأسرة في البيت ووالدها وصاحب الحقل، بسلاسة وهدوء في حوارات هادئة ورؤية لمتابعة ما قد يحصل.

في العام 2011 يحدث التغير الكبير في الأحداث، وينتشر الربيع العربي في معظم الدول، وسرعان ما تحولت الأحداث في سوريا إلى صراع دموي مسلح، الأمر الذي دفع بأسرة ماريا في سوريا كما مئات الأسر الأخرى للالتحاق بها في لبنان، وانتشرت الأكواخ والخيم، وسرعان ما تحول المكان إلى مخيم موسى الزراعي، والذي ضاق بساكنيه. هذا التحول الكبير في الأحداث رافقه رحيل "موسى" الرجل اللبناني الأرمني، والذي كان السند والحاضن لتلك الأسرة والجموع الساكنة في المخيم، وتخفي ماريا خبر وفاة موسى عن والدها خوفاً عليه من أن يصاب بأزمة قلبية، هذا التحول دفع بالمخرجة للذهاب بفيلمها نحو مكان آخر، لتبرز حياة ماريا بكل تفاصيلها وأوجاعها إلى الواجهة، وهي الفتاة السورية المهجرة التي تحاول الحفاظ على تماسك الأسرة في ظل ظروف بالغة الصعوبة والتعقيد.

الجميع في هذا الجحيم الإنساني المروع ضحايا يحاولون التمسك بالحياة والحلم والأمل، رجال بلا عمل وأطفال بلا تعليم وأبسط سبل العيش الكريم. تلك التحولات الدرامية في الفيلم تمسك بها كيفوركيان من زوايا متعددة دون خلل أو تشتت، فقط تفاصيل حياة ويوميات بشر يحاولون العيش في ظل هذه الظروف الصعبة، يتزوجون ويتشاركون الأفراح والأتراح، مقربة مجراها السينمائي نحو متابعة حياة "ماريا" وأسرتها وما الذي سيحصل معهم من تحولات وتنقلات بسرد متقن وبسيط وعميق.

"بطاطا" فيلم وثائقي مشغول بعناية وعين باصرة عميقة في علاقتها بالحدث والشخصيات التي تتحدث عنها دون ادعاءات ودوغمائية فجة، معتمدة على قوة الحدث والأشخاص الذي صنعوه خلف مأساة التهجير والحياة التي أجبروا على العيش فيها.