{قنديل أم هاشم}.. لامس أزمة الحداثة العربيَّة ونظر بغضب إلى الخرافة

ثقافة 2023/01/09
...

 المحرر

يمكن القول أن فيلم "قنديل أم هاشم"(1968) واحد من أهم كلاسيكيات السينما العربية، الذي أثر كثيراً في الجمهور، حال عرضه في سينمات مصر والبلدان العربية، لكونه أثار أسئلة تطرقت لواحدة من أهم الإشكاليات التي واجهت الحداثة العربية، ونقصد بها المعاصرة والتراث، هل ننظر بغضب لكل موروثنا وعاداتنا وتقاليدنا، بل وحتى خرافتنا، ونلحق بركب الحضارة والعلم، تماهياً مع نهضة الغرب الكبرى؟، أم نستكين لواقع الحال، أو نمازج بين الموروث ومعطيات الحضارة؟

هذه الأسئلة الإشكالية أجاب عنها الفيلم الذي أخرجه كمال عطية ومثل فيه شكري سرحان، وسميرة أحمد، وعبد الوارث عسر، وأمينة رزق، وصلاح منصور، فضلاً عن الألمانية ماريا كوليكوفسكي، كتب السيناريو له موسى صبري، وأدار تصويره إبراهيم عادل ومنتجه حسين عفيفي، بينما ألف موسيقاه التصويرية فؤاد الظاهري.

 وتدور أحداث الفيلم المقتبس من رواية  "قنديل أم هاشم" ليحيى حقي ونشرت في العام 1944، في قاهرة العشرينيات من خلال قصة إسماعيل (شكري سرحان) الطالب المتفوق،  الذي يحصل على مجموع يؤهله لدخول كلية الطب وتحقيق حلم طالما راود أباه العطار، ولا يجد فرصة في الجامعة المصرية، فيسافر إلى ألمانيا لدراسة الطب، ويتعرف على  ماري (ماري كوليكوفسكي)الفتاة الألمانية، التي تحنو عليه وتدخله إلى عالم الحضارة الذي يحركه العلم والمنفعة، فيعود طبيباً إلى مصر ناقماً على كل شيء فيها، ويفاجأ أن ابنة عمه فاطمة (سميرة احمد) تعالج من الرمد بزيت قنديل أم هاشم، الذي يضيء الضريح المبارك، وقد استعمله الدجالون في علاج عيون المرضى، تثور ثائرته ويرمي الزجاج بالأرض، بل يكسر زجاج قنديل الضريح، فيهجم عليه المريدون ويشبعونه ضرباً، وبعد عزلة واحباط  يجري عملية لعيون فاطمة، فتفقد بصرها بالكامل، يصاب بالنكوص ثم يقرر العودة إلى السيدة زينب وفتح عيادة للفقراء، موظفاً زيت قنديل أم هاشم لإقناع الناس بالمعالجة وينجح في شفاء فاطمة ويصبح طبيباً محبوباً ومباركاً.

  يفتتح عطية فيلمه بلقطة عريضة لجامع السيدة زينب، بينما تتوالى أسماء الممثلين وفريق العمل، ثم لقطة أخرى زوم لقنديل من تلك القناديل التي تضيء المقام المبارك، وبذلك أدخلنا المخرج  في جوهر موضوعة فيلمه ورسالته الرمزية، فالمقام وقناديله المضيئة، هي مرتكز الحدث ومنطلقه، بعدها نتابع مشاهد تأسيسية للمرقد وفضائه الضاج بالباعة والمريدين والمارة والمتبضعين، إذ نشاهد الشيخ صالح رجب(عباس رجب) ينظر بغضب لزوار يقبلون عتبة المقام وحيطانه مستغرباً من هذه الظاهرة،  ثم نتعرف على شخصية الطالب إسماعيل (شكري سرحان) بـ "دشداشته المقلمة" وطاقيته، التي تنم على الاستقامة والفطرة، وكتابه الذي يحمله بحنو، وهو يتأمل ضوء القنديل، لنمر على شخصية دردير (صلاح منصور) القَيّم على إدارة المقام بروحه المرحة، فهو متصوف وحشاش ومزواج ومتلاف، ثم الأب(عبد الوارث عسر) وأسرته، بعدها نكتشف شخصية الدرويش (عزت العلايلي) بنظارته التي تخفي عماه المؤقت، وفاطمة (سميرة احمد )ابنة عم إسماعيل اليتيمة وربيبته التي تعاني رمداً مستداماً، فضلاً عن الأم (أمينة رزق) الطيبة والمتفانية، هذه الشخصيات التي ستشكل أحداث الفيلم، انطلقت من حواري السيدة أم هاشم وظلت تدور في فلكها، بعد عودته من ألمانيا يثور على الجميع ويهشم قنديل السيدة ويجري العملية لفاطمة وبيده سلاح ماضٍ، هو العلم، لكنه يفشل في علاجها، فيصيبه الذهول وينكص كئيباً، بعد أن خذله العلاج الألماني، فيهيم بعيداً، لا يكلم أحداً ويسكن في "بنسيون"، يراجع ما حصل، فيكتشف أن الحل الأمثل في العودة إلى أهله وحارته، واستيعاب طريقة تفكيرهم، فيتخذ قراراً بالعودة إلى مقام السيدة، ويتأمل ثانية قنديل أم هاشم، يجلس بقرب الشيخ دردير، ويقرر إعادة فتح عيادته والعلاج بزيت قنديل أم هاشم، من خلال الإيحاء لهم بذلك، فيضع العلاج الحقيقي بدلاً عن الزيت، فيشفى معظم مرضى العيون وأولهم ابنة عمه فاطمة.  صور محمد عمارة ذلك بلقطات من الخلف لإسماعيل، بينما يظهر زوار السيدة متوثبين لضربه، فنراه أقرب إلى الصاغر أو التائب، بعدها لقطة زوم مكبرة للقنديل ينظر إليه إسماعيل بانكسار، بينما أعطته اللقطة المقربة هيمنة وثبوتاً 

ما إن يصل إسماعيل ألمانيا ويصعد في أحد قطاراتها، حتى تأخذ بتلابيبه الدهشة، وهو يرى عمرانها ونظافة شوارعها وخضرة أرضها، بعدها يستقل سيارة أجرة، فنراه يكاد أن يخرج رأسه من زجاج السيارة منبهراً بالعمران وبعدها يلتقي بماري التي تبذل جهوداً لمساعدته وتقع في غرامه، لكن نصائح أبيه وما رسخ في ذهنه من قيم تحول دون ذلك، ليحصل نوع من الصدام بين نمطين من التفكير، فالشرق شرق والغرب غرب، هي تريد منه الوصال جسدياً، وهو يرفض لأن دينه يحرم ذلك ويطلب منها الزواج، تقول له إن من الطبيعي  أن يشرب الكحول، لكنه يرفض ذلك، وينهمك في دراسته وينجح في ذلك، لكنه لم يصمد طويلاً فتستحوذ ماري على  قلبه وعقله، ويقتنع بأن العلم وحده هو القادر على انتشال مصر من تخلفها وتخاريفها، فيعود إلى مصر ناقماً على كل شيء. 

الإقرار بأن العلم لوحده لا يكفي، وإن كان مصدره الغرب، إنما يمكن الاستعانة به دون التخلي عن عاداتنا وتقاليدنا، شيء آخر بثه الفيلم، هو أن أبناء مصر المثقفين مهما شرقوا، أو غربوا، أو ابتعدوا عن الأصل وقلدوا الغرب حد القطيعة، سيعودون مثلما رجع إسماعيل إلى السيدة أم هاشم وقنديلها المضيء.