خضير الزيدي وسرد القصيدة

ثقافة 2023/01/09
...

 رولا حسن


«كل شيء أيتها السنة على حاله 

كلحاف نومنا وفرشاة أسناننا 

أنا بخير طالما في يدي شقوق عميقة 

هذا يجعلني أحرث أية مأساة قادمة».

هكذا يدخلنا خضير الزيدي إلى عوالم مجموعته الصادرة حديثاً ضمن سلسلة الإبداع العربي – الهيئة المصرية العامة للكتاب 2022، عبر قصائد تلتقط اليومي، والحميمي، محولاً العادي إلى شعري، مستثمرا لما حوله بدقة، ومصراً في الوقت ذاته على تلوين العالم الذي يصر بخرابه وأحزانه أن يبقى بلونه الرمادي المائل إلى السواد.

لا يفقد الشاعر ثقته بالحب، فلا حيلة له معه سوى العطر، ولا يملك من ملابسه الشتوية سوى قلبه، فهو أيضا لم يفز بأي جائزة في هذا الحب ومع ذلك لم يندم عليه.

الحب عند الزيدي ليس استعطافا، ولا رسائل شوق مبللة بالدمع، إنما هو ذلك الحب الذي بات يشبه الحياة بقسوتها وخذلانها للإنسان في وجوده.

من هنا يقدم الزيدي شعره عالماً شخصياً خاصاً، لا مجموعة من الانطباعات، مؤكدا ما قاله أدونيس في كتابه «مقدمة الشعر العربي»: «كل إبداع هو إبداع عالم: فالشاعر الحق هو الشاعر الذي يقدم لنا شعره عالماً شخصياً، خاصاً لا مجموعة من الانطباعات والتزيينات».

يقارب الزيدي في مجموعته الإنسان في عزلته المعاصرة، وهشاشته وسط ذئاب العالم التي تفرض قسوتها عليه لتحوله إلى ذئب من ذئاب الغابات: «في الوقت الذي أعبر فيه مقبرة النهار/ أغوي نرد الكلمات/ أشطب كثيراً من ظلماتها وأتعظ في القليل من الحجر/ وأهتف أخي أيها الإنسان الذئب/ لن تبلغ الثمر العالق/ في دم أخيك».

يمضي صاحب «كلمات خارج الأقفاص» في قصائده عبر سرد شعري يستلهم مفرداته من محيطه القريب فتمر كلمات كثيرة مثل: بامياء، فرشاة أسنان، لحاف، إلخ، وأسماء مدن كبغداد وبيروت ودمشق.

مما سبق، يتبدى واضحا في قصائد الزيدي الاشتغال الحثيث على التفاصيل الشخصية القريبة، والعمل الجاد على استثمار طاقات السرد، وآلياته في سرد حكاية هذه التفاصيل، ليؤرخ بطريقة شعرية حياة شخصية محولا إياها إلى تاريخ عام.

سيشعر القارئ وهو يقرأ النص أن هذا التاريخ يحكي شيئا من سيرته الشخصية معتمدا على آلية البناء الدرامي، وهنا نحن أمام شعر يتبع قوانين السرد، ويكشف عن طبيعة هذه القوانين، وينافس السرد أحيانا في انتاج عدد من التقنيات النصية التي تراهن على طرح أشكال جديدة، أو مغايرة من هذا السرد ونتيجة لتعاضد العناصر الشعرية والسردية يتشكل هذا السرد الشعري، في خطاب طيع ومتدفق، تلائم طبيعة السرد الشخصي الحميم بتفصيلاتها الحياتية المعيشة، كما في نص «أنا بخير أيتها السنة» وقصيدة أبي الذي يبلغ بها البناء الدرامي الشعري أقصاه حيث يكشف عن عوالم خفية في شخصية الأب عبر صور سوريالية تتجاوز المنطق لكنها موظفة شعريا بطريقة ذكية فتوالي الصور الغريبة والمدهشة في آن، ضمن بنية سرد شعرية كثيفة الصور، تشكل مجازها الكلي من سحر هذه الصور وغرابتها، ولا مرجعيتها وغرابتها معتمدا بشكل كلي على تحرير الخيال وإطلاق عنانه، فتتأسس الشعرية هنا من جدلية يتواشج  فيها الحياتي بالفنتازي والتقريري بالتصويري ليشكل خطابا شعريا مختلفا.

إن إدراك الشاعر لحساسية كونه لم يعد رائيا ولا مبشراً في زمن سقوط الأيديولوجيات، والمفاهيم الكبرى في عالم يشهد أعلى موجات الديمقراطية وأعتى موجات العنف فلم يعد أمامه سوى أن الارتداد إلى نفسه، وما يحيط بها من تفاصيل مدركاً الهشاشة التي يعاني منها الإنسان المعاصر، والعزلة التي وقع في فخها نتيجة كل ما حدث ويحدث في العالم من عنف وخراب.

ويمكن القول ببساطة، إن الزيدي قد تنازل عن العالم ذلك أنه أصبح هو العالم بحد ذاته، ولكونه – وإلى جانب أشيائه البسيطة –أصبح موضوعا للقصيدة، من هنا يمكن القول إن القصيدة تحولت إلى وجهة نظر، فكل قصيدة تشكل بطريقة ما نظرة شخصية الى العالم المحيط بما تتميز به من الحياد العاطفي والرصد، ففي قصيدة أبي يواجه المطلق وهو الموت بينما يسرد تفاصيل حياته مع والده وهنا لا يحتمي الشاعر بفلسفة أو أيديولوجية، معينة لكنه يواجه الظاهرة من خلال وجهة نظر تحيل هذا المطلق إلى نسبي، ثم تحيل النسبي إلى الشخصي.

في «أنا بخير أيتها السنة» قصائد تؤرخ للخيبة والخذلان، قصائد تنمو شاقوليا من الأعماق باتجاه سريرة الإنسان ودخائله، وتنمو أفقيا في تحولات العالم، وأن أرخى الحب ظلاله على كثير من النصوص، لكنه لم يقع في فخ السيولة العاطفية ذلك بسبب اشتغاله الحثيث على تكنيك القصيدة وبنائها، الأمر الذي أعطى القصيدة لونها ورائحتها فللحزن، كما الحب ألوانٌ وروائح.