نقد النقد.. القصَّة القصيرة جدَّاً والتَّجذير الملتبس

ثقافة 2023/01/09
...

  عبد علي حسن

* يتشكل المنجز الأدبي والثقافي لأيِّما مجتمع من المجتمعات عبر مصدرين داخلي وخارجي، فالداخلي هو الأشكال الإبداعيّة التي ينجزها المجتمع وفق ما تعبّر تلك الأشكال عن الحاجة الاجتماعيّة والنفسيّة والفكرية للمجتمع وهو يمرّ بمراحل صيرورته الحياتيّة، أما المصدر الخارجي فيتمثل باستعارة الأشكال والأجناس الأدبية التي أنتجتها مجتمعات أخرى/ خارجية، وتجد المجتمعات الأخرى في هذه الأشكال مايلبي حاجتها التعبيرية.

ففي المنظومة الثقافية العربية أبدع العرب أشكالاً سردية وشعرية كانت استجابة لحاجة المجتمع العربي لتعبّر هذه الأشكال عن هوية المجتمع العربي وحاملة للخصائص الاجتماعية والنفسية والثقافية للفرد والجماعة على حد سواء، كالشعر الذي احتفظ بهيمنته على الأشكال الأخرى ليكون ديوان العرب، كما أبدع العرب أشكالاً سردية كفن السيرة والمقامات والمغازي والخبر والتوقيعات وقصص الحيوان وسواها من الأشكال التي هُجرت نظراً لتطور المجتمع وظهور أشكال أخرى تماهت وحاجات المجتمع التعبيرية الجديدة، أما الأجناس التي تمت استعارتها من المجتمعات الأخرى نتيجة للمثاقفة الحضارية والحوار الثقافي فهي الرواية والقصة القصيرة والقصة القصيرة جدا وقصيدة النثر، ومؤخرا شهد شكل الهايكو الياباني إقبالاً من الشعراء للكتابة فيه وفق قواعده المعروفة، إذ تم اختبار مدى استجابة الكاتب والمتلقي على حد سواء ومدى إمكانية مساهمة هذه الأشكال المستعارة في تكوين نسيج البنية الثقافية للمجتمع العربي. وقد نجحت هذه الأشكال في إثراء المشهد الثقافي، ولعل ما أُنجز عبر هذه الأشكال وماشهدته من صيرورة وتطور دليل على نجاح إمكانية هذه المثاقفة والاستعارة التي لا نجدها عيباً أو خللاً في التكوين الثقافي العربي، فالمجتمع العربي وأسوة بالمجتمعات الأخرى التي شهدت ظاهرة التثاقف واستعارة الأشكال الإبداعية وبما يثري المشهد الثقافي الداخلي ويلبي الحاجة التعبيرية للمجتمع فوجد في استعارة بعض تلك الأشكال ما يفيد في إمكانية الإحاطة بالمتغير الاجتماعي والتعبير عنه. إلّا أن بعض الباحثين قد وجد في هذا التثاقف والتناقل للأشكال الإبداعية من مجتمعات إنتاجها عيباً وخللاً في البنية الثقافية العربية، فراحوا يحاولون البحث عن المشتركات البنائية لهذه الأشكال والأجناس والأنواع في ما تركه لنا الأجداد من منجزات سردية وشعرية وتعبيرية ليؤكدوا وجود جذور عربية في التراث العربي لهذه الأشكال والأجناس المستعارة كما ذهب الدكتور جاسم خلف الياس في مقاله (عودة إلى جذور القصة القصيرة جدا) المنشور في الصفحة الثقافية لجريدة الصباح الغراء ذي العدد 5572 ليوم  الثلاثاء 20/ 12/ 2022، إذ حاول الدكتور جاسم أن يجد في بعض الأشكال السردية التي تضمنها التراث العربي قديما والتي توقفت عند حدود ظهورها وغياب الحاجة التعبيرية لها لاحقا بفعل صيرورة الحياة في المجتمع العربي.  جذوراً للنوع السردي الوافد من البيئة الثقافية للآخر، وأعني هنا (القصة القصيرة جدا)، فهو يشير في مقدمة مقاله إلى وجود ثلاثة مواقف تجاذبت عملية تأسيس وظهور القصة القصيرة جدا في البنية الثقافية العربية، الأول ينسب تأسيسها إلى الأصل الغربي، والثاني أسّس وجودها من الجذور العربية وأنكر عليها أي صلة بالقص الغربي، فيما ذهب الموقف الثالث إلى تأثره بالموقفين السابقين، ويجد الدكتور جاسم أن  لهذا الموقف الأخير حضورا واسعا (لما له من موضوعية وجدية، إذ يراها - المواقف- قد نهلت من منبعين رئيسين) ونرى أن في تقسيمه الآنف الذكر مايستوجب المناقشة، إذ إننا نجد أن ظهور هذه المواقف بعد أن ظهرت القصة القصيرة جدا في البنية الثقافية العربية استعارة من بيئة الغرب الذي أنتجها، وهذا يعني أن الأشكال السردية التراثية التي وجد فيها الدكتور جذورا لهذا النوع السردي قد توقفت عن الفعل الأدبي كشكل مكوّن للمشهد السردي العربي، وبمعنى آخر فإن تلك الأشكال السردية التراثية قد هجرها الكاتب العربي كـ (الخبر، النوادر/ الفكاهات والنكت، الأسطورة والخرافة، قصص الحيوان) التي عدّها الدكتور جذورا للقصة القصيرة جدا وهي أشكال ظهرت قبل ظهور القصة القصيرة جداً. 

وهذا يعني أن هنالك ظروفا ذاتية وموضوعية أسهمت في ظهورها تختلف عن الظروف التي أنتجت القصة القصيرة جدا التي ظهرت من رحم القصة القصيرة وفق توصيفات أجناسية توافرت على الظرف الذي أنتجها، ولعل في مقدمتها وجود حاجة عصرية لاختزال وتكثيف الحكاية والحدث والشخصيات وهذه الظروف أو الصيرورة بالتأكيد مختلفة عن الظروف التي أنتجت تلك الأشكال السردية التراثية التي اهتم بها علم السرد المعاصر وعدّها سرديات انطلاقاً من مفهوم السرد بعدّه (أخباراً) لم يتوقف عند حدود الفنون السردية المعهودة والرواية والقصة القصيرة والقصة القصيرة جداً. إلّا أن هذه السرديات لم تعُد تشكّل مصدراً من مصادر انتاج القاص المعاصر لينتج النص السردي، وصار يبحث عن أشكال جديدة تلبي حاجة العصر التعبيرية فتمت استعارة هذا النوع من البيئة الغربية التي أنتجتها وتحديداً من محاولات التجريب في الرواية الفرنسية الجديدة التي ظهرت في ستينيات القرن الماضي متجاوزة الأطر التقليدية للسرد الكلاسيكي ومن هذه المحاولات ظهور (انفعالات) ناتالي ساروت التي ترجمها فتحي العشري في سبعينيات القرن الماضي. لقد ظهرت القصة القصيرة جداً كنوع سردي من رحم القصة القصيرة وتم وضع اشتراطاتها الإجناسية كموجهات بنائية تكسب هذا النوع صفاته المغايرة عن القصة القصيرة والرواية كأنواع سردية لها أيضاً شروطها الأجناسية، وحسب تودوروف فإنَّ ظهور جنس ما أو نوع أدبي ما مقترن بثلاثة شروط، الأول وجود القصدية والثاني التكرار والثالث هو التجاوز، وإذا ماتتبعنا ظهور القصة القصيرة جدا فإننا نجد أن هنالك قصدية في كتابتها وهي تجريبية الخروج على النمط الكلاسيكي تبعاً لصيرورة المجتمع الفرنسي بعد الحرب العالمية الثانية وظهور مرحلة مابعد الحداثة، أي توفر إمكانية كتابة نوع سردي يلتقط الحدث السريع والعابر عبر لغة مكثّفة ومختصرة لأركان السرد الأخرى كالمكان والزمان والشخصيات، كما نجد تكراراً لهذه القصدية توفرت في الإقبال المتزايد للساردين في الكتابة وفقه، وبتقدم الزمن والصيرورة المستمرة للحياة حدث الشرط الثالث وهو تجاوز ما أنجزه القصاصون باضافات من الممكن عدّها صيرورة شكلية وأخرى مضمونية لهذا النوع، لذا فإن الاشتراطات الأجناسية للقصة القصيرة جدا قد مرّت بمراحل اعتبارا من التأسيس، ومادامت الحاجة التعبيرية لهذا النوع لا تزال قائمة فإن صيروراتها اللاحقة ستترك أثرها في تطوره.

أخلص من كل ذلك إلى أن وجود مفهوم السرد في الأشكال السردية المختلفة كعامل مشترك لا يعني توفر إمكانية حلول شكل محل شكل آخر، إذ إن هذه المحاولة تثير الالتباس للوقوف على المحددات والشروط الأجناسية لكل شكل، فضلاً عن أن هذه المحاولات (الاستباقية) ودعوى وجود جذور لهذا الشكل أو ذاك في التراث العربي هي دعوى محفوفة بتجاهل فواعل تشكّل الأجناس التي تحتفظ باستقلالية الظرف الذاتي والموضوعي الذي ينتجها. لذا أجد أن الإقرار باستعارة الأشكال الإبداعية المختلفة من البيئة الثقافية للآخر هو أمر طبيعي وحضاري ولا يقلل من شأن الأشكال التعبيرية السائدة في البنية الثقافية العربية، ومثلما نستعير الأشكال من الآخر فهو أيضاً تأثّر بمنجزنا واستعار بعض الأشكال السردية في التراث العربي، فـ (ألف ليلة وليلة) منذ ترجمها إلى الفرنسية أولاً انطون جالان ترجمة حرة من العام 1704 وحتى عام 1717، ومن ثم ترجمت إلى اللغات الأوروبية ترجمات عديدة كان لها الفضل على المستشرقين الذين نبهوا إلى القيمة الأدبية لليالي، وكتب الأوروبيون العديد من القصص والروايات التي استعارت من أسلوب وحكايات الليالي الكثير، فضلاً عن اهتمام الآخر بالسرديات الأخرى كرسالة الغفران للمعري والقصص الخرافية.