المسرح العراقي ما بين المقتبس الناشئ والمتطور

ثقافة 2023/01/10
...

 د. علاء كريم

يشكل المسرح المعاصر واقعاً مغايراً، يمكن من خلاله الانتقال إلى واقع آخر أفضل، بعيداً عن التقليد والمحاكاة الافتراضيّة. وذلك لأن المسرح مجموعة متنوعة من الأنشطة البشرية، منها بصرية وأخرى سمعيّة وأيضاً ما تلامس الأداء «حركيّة»، ومن ثم كلها تعبر عن أفكار تتضمن مجموعة أفعال إبداعيّة أو مفاهيميّة أو لها مهارة فنيّة، والمقصود هنا ضرورة أن يكون الفعل المسرحي متميّزاً جماليّاً وفكرياً ومعرفيّاً.

 وأن يعمل على إقناع المتلقي المعاصر، والذي باستطاعته اليوم فك شفرة العرض المسرحي، وتحديد مكامنه الضعيفة من أخرى لها أهمية وحضور إبداعي متفرّد؛ لذا على من يشتغل بهذا الجانب، ويحاول أن ينتقل بين أمكنة وعناوين ليس لها علاقة بـ «المسرح»، أن يطبق قيم هذا العالم الحقيقيّة وعلومه المعاصرة، وأن يبتعد عن التقليديّة واشتغالاتها المكررة.  عديدة هي الاعتبارات التي تتحكم بعوالم الفن الحديث، وتقنياته التي أصبحت لها أهمية قصوى، وذلك لتمييزها في المهارات المكتسبة بشكل عام، مثل الفنون التطبيقيّة. بعيداً عن الأفكار والمهارات التي تعتمد التقنية الناشئة (البسيطة) بواسطة الإنسان، وهذا قد يحدث قطعا في نقل المعلومة أو رسم المفهوم الفلسفي الجمالي الذي يتماشى مع واقع الجيل الحالي، ومنه (الطفل) الذي تؤكد أغلب الدراسات على أنه يمتلك فلسفة تفوق فلسفة الكبار، لأنه يعتمد على نظام الإشارة وفك شفرتها، وايضا يختزل العديد من المعاني عن طريق «الإيماءة».لم تعتمد جماليات المسرح اليوم مبدأ المحاكاة، وذلك بعد أن أعلن الفيلسوف الفرنسي (بودريار) عن موت الواقع لصالح مبدأ الافتراض، رغم قيام فنون الأداء اليوم بالانغماس الكلي في وسائط الاتصال، عبر فرز نماذج إبداعيّة ليس لها مرجعيّة واقعيّة، وهي من ثم تجارب ما بعد الدراما والمسرح اليوم، كما تجسدها أعمال: الكاتب والمخرج والممثل المسرحي الكندي (روبرت ليباج)، الذي يعمل على تحويل المكان العام إلى مكان سحري، والمكان السحري إلى مكان واقعي سهل المنال، وهو ممون أحلام، ويهتم بلغة ومفردات تنتمي إلى لغة العرض. كما يؤكد «ليباج» على أن التطور التقني جعل المسرح يعيش عصر نهضة يساعد على التطور وخلق الشكل المطلوب على المسرح، وفي تجسيد التصور الإخراجي بمساحة واسعة من الحرية. وتتسم أعمال «ليباج» بتعدد أسلوبه الإخراجي وبشكل يختلف عما يقدمه على المسارح الأوروبية كـ «مخرج» ضيف، إذ يعمل مع ممثلين من مدارس تأهيليّة مختلفة، ضمن عقود مع مؤسسات مسرحية وتحت ظروف فنية مختلفة. وأيضاً اشتغل في هذا الجانب الكاتب والممثل المسرحي اللبناني ربيع مروة المتجذر في المسرح، وفي أعمال الفيديو وفن التصوير الفوتوغرافي، إذ أثرت أعماله منذ أواخر التسعينيات على الواقع الفني في لبنان، وطمس الحدود بين المسرح والفنون البصريّة وتشويشها، فهو غالباً ما يستخدم الشاشات والصور المتساقط، لذا فهو مزيج من الابتكار الطليعي، والتعقيد المفاهيمي والإلحاح السياسي، ويرتكز في اشتغالاته على روح الدعابة البصريّة.

متعددة هي الاشتغالات الفنية الافتراضية التي انتجتها الظواهر غير الطبيعية، مثالٌ على ذلك جائحة كورونا (كوفيد -19)، الذي اجتاح العالم بتأثيره في جوانب الحياة التي توقفت بسببه، وعلى ضوء هذه المتغيرات انقسم الفنانون حول المفهوم الفني الذي حكمته الظواهر، منهم من أكد أنّ هذا الوباء سيعمل على ايجاد متغيرات يمكن لها أن تنقل العلوم الفنية إلى مستويات متعالية القيم، وهناك من أكد أن الوباء سيعمل على تحديد بعض المساحات الفنية، وانزياحها نحو الافتراضية غير المنتظمة والبعيدة عن التخصص. وهذا ما حدث في العديد من المجالات الفنية ومنها «المسرح»، لتطرح عبر تلك المتغيرات إشكالية تبحث عن مخرجات لواقع مسرحي مغاير ومتطور يتماشى مع مضمون المنهج العلمي لهذا الفن. لذا مختلفة هي التجارب الإنسانيّة التي تنزاح لفضاء المسرح، منها فكريّة وأخرى ثقافيّة وايضاً تربويّة، فضلا عن الجانب العملي التطبيقي، وهي تبث وتفعّل من قبل مؤسسات ومنتديات وأشخاص، منها ما هو حقيقي وآخر افتراضي، وقد يدفعنا ذلك إلى ايجاد فرضيات تترجم إلى فرص للمناقشة والتقييم على ما قُدم من جهد ذاتي في اشتغالات المسرح ومسمّياته التي قد يتفاعل معها الجمهور ويلامس مفهومها الفني الذي قد يفتقر إلى أبسط المقومات المنتجة للجمال، والمبتكرة للأفكار المعاصرة، والتي يمكن لها أن تتفاعل وجهاً لوجّه مع الجمهور.

هذا ما أكده الدكتور سامي عبد الحميد في كتابه «أضواء على الحياة المسرحيَّة في العراق» إذ كشف بعض الظواهر والتجارب المعاصرة في المسرح العراقي، وأيضاً عرّف بأوجه الخلاف أو الافتراض بين مسرح الرواد والشباب والتوجهات المسرحية المتطرفة، وآليّة تعاملها مع توجهات المنظرين المسرحيين أمثال ستانسلافسكي وبريخت وكيفية التعامل مع كتاب مشهورين مثل شكسبير، مما يأخذنا ذلك إلى زمن مختلف بتوجهاته، ظهرت فيه مساحة المسرح التجاري في العراق، والتي برزت في عقدي الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين لعدة أسباب منها اجتذاب أعداد كبيرة من المتفرجين وتدني المستوى الفني لعروض وطغيان الطابع الاستهلاكي، الذي يفقد هوية المسرح العراقي وجوهره الحضاري الباحث عن خصوصية المسرح، والفائدة التي يقدمها هذا المسرح للمجتمع على الصعيد الإنساني والحضاري. بعيدا عن التخبط في تقديم طروحات تتعلق بالتحول المفاهيمي، والتحوير المنهجي، والاقتباس غير المهني. ولأجل تأصيل وتثبيت هوية المسرح، يجب اعتماد رؤى علمية حقيقية تتمثل أولاً في المصدر، وأخرى في الأسلوب، والثالثة في الإطار المنهجي والنظري، وأن يعتمد الفنان المسرحي باشتغالاته، الأصل المتطور، أو المقتبس المتطور.