هل يمثّل عنفُ المثقف ظاهرةً بمرجعيَّات معرفيَّة وبيئيَّة؟

ثقافة 2023/01/10
...

  استطلاع: صلاح حسن السيلاوي 

ما رأيك بطبيعة حوار المبدع العراقي مع أقرانه في المسائل الخلافيّة، ما الذي يغذي خلافاته التي تصل إلى مراحل مستهجنة أحيانا؟ هل يمكن أن نتهم السياقات الثقافيّة التي نشأ عليها كالأديان والأعراف والقيم الاجتماعيّة المتداولة؟ أيمكن وصف ما يظهر من عنف لدى بعض المثقفين بالظاهرة التي لها أن تشكل تغييراً سلبياً في المشهد الثقافي مستقبلا؟، ماذا عن علاقة عنف المثقف بطبيعة الحياة العراقية وأثر الحروب عليها، فضلا عن قسوة ظروف الحياة البيئيّة في البلاد؟، أيمكن أن يكون عنف المثقف مرتبطا بصنميَّة الإنسان وإحساسه بالنرجسيَّة؟ هل تغذي بعض المؤسسات هذا العنف عبر مناصبها أو من خلال سكوتها عما يصدر منه؟.

بحثت مع نخبة متميزة من مثقفينا عن إجابات لهذه التساؤلات عبر هذا الاستطلاع.  

مشروعيَّة الاختلاف وفساده 

الكاتب حسان الحديثي يشير في رأيه إلى مشروعية الاختلاف في أصله إلا أنه يستغرب من تطوره إلى الحد الذي يتحول معه إلى عداوة. لافتا إلى أن العلة تكمن في الأنساق الثقافية التي نشأ عليها المجتمع وفي الأعراف المتوارثة التي كبروا فيها أفراده؛ كالإحساس بالعيب اذا كان الرأي خطأً والشعور بالعار والانكسار إن لم ينتصر رأيه، مبينا أن العلة تكمن في إحساس المختلفين بالخسارة القصوى إن لم يكن رأي أحدهم صحيحاً، وكأن الامر نهاية العالم وحافة الحياة، وهذه الظاهرة تفصح عن مدى حدية الشخصية المختلفة ورقتها بحيث تشعر بالانكسار.

وأضاف الحديثي قائلا: رأيت كثيراً من المختلفين من مجتمعات أخرى “خارج حدود ثقافاتنا” دخلوا في نقاشات حادة وفي مواضيع حساسة انتهت حواراتهم سلمية بنتائج مفيدة، والسبب هو الهدف من الاختلاف؛ فاذا كان الهدف هو القضية العلمية أو المعرفية حصراً، فسيكون الأمر جميلاً وينتهي سلميّاً، أما إذا ابتدرنا الحوار بشخصنة الموضوع فبالتأكيد سينهي بالخراب.

هناك أمر آخر وهو نظرتنا إلى رأي أحدهم بالتقديس، لدرجة أننا لا نستطيع تقبّل خطئه، وهذا أمر يدل على هشاشة النظرة في أصلها. كما لا نستطيع انكار الجو المشحون بالحروب وقسوة الحياة التي كونت البيئة التي احاطت بالمجتمع فخلقت الشخصية النرجسيّة للفرد فجعلها تتعلق بالخلفيّة الفكريّة والثقافيّة للمختلفين، وتؤثر في طينة تكوينهم وماء عاطفتهم.

وإلا لماذا الشعور بالاستفزاز من أي إحساس بالخطأ؟ لماذا يشعر أحدنا الخيبة والخسران إن لم ينتصر رأيه على الرأي الآخر؟ كل ذلك يعود إلى النفسية المجروحة الضامرة للتشنج سلفاً، النفسية الممتلئة بالخيبات ولا تريد أي اضافة لأي خيبة جديدة. لاجل ذلك لن نستطيع التغاضي عن دور الرأي الجمعي للمجتمعات التي نعيش فيها وأقصد؛ المؤسسات الدينية والعشائرية والسياسية، بل وحتى المؤسسة الأدبية والميول الثقافية لكل منا.

وخير ما يُشعر الناس بالارتياح في ساعات النقاش والاختلاف؛ هو طرح كل ما يحزّبهم ويقوقعهم، هذا من جانب، ومن جانب ثان؛ أن يكون الهدف المعرفي والفائدة المجتمعية هما الهدفان الوحيدان المرجوان من الاختلاف.

ساعة ذاك سيشعر الجميع بالارتياح بل وبالسعادة إن اختلافهم آلَ إلى نتيجة مفيدة وانتهى بأمر مُرضٍ للجميع بغض النظر من هو صاحب الرأي الصحيح. 


التملّص عن طريق اللغة 

الفنان التشكيلي ستار كاووش تحدث في إجابته عن جوهريّة الاختلاف في حياة المثقف والإنسان بشكل عام، لافتا إلى أن ذلك الاختلاف يجعلنا نمضي في الطريق الذي يُغنينا لا الذي يفقرنا، حيث يمنحنا تعدداً بالأفكار ويفتح لنا نوافذ جديدة للحوار والتكامل مع بعضنا. 

وأضاف مبينا: يُطالبنا كثيرون بأن نتفق تماماً مع آرائهم وما يعتقدونه ويؤمنون به من دون فسح المجال للنقاش. لكن لماذا ننصاع لذلك وكل شيء يتغير في هذه الحياة؟، فحتـى الحجر يصيبه التراكم والتعرية، فما بال الأفكار والمعتقدات؟ فالتمسك ببعض الأفكار أمام كل المتغيرات التي تحدث في الحياة، يعد قيداً لتطلع الإنسان، إنه مثل العصا التي توضع في عجلة الانفتاح والتطور، لتعيق المضي الـى الأمام. خطورة الأمر تُكمن في أن الكثير من المثقفين يستطيعون التملص -عن طريق اللغة- من قول الحقيقة المجردة البعيدة عن الأهواء والانتماءات، والأخطر من هذا هو أنهم دائماً يجدونَ الأعذار للقيام بذلك مجدداً. وهم بهذا يشبهون بائع الفاكهة المخادع الذي يغطي الفاكهة الفاسدة بأخرى جيدة في ذات الصندوق. هكذا يفعل الكثير من المثقفين، وهم يغطون الحقيقة المجرّدة بأفكار تنبع من أهوائهم وتعاليهم وخيلائهم، لتبقى تجارة الادّعاء رائجة بشدّة، وخاصة في وقت الأزمات والتطبيل.   

يقولون إنَّ الاختلاف في الرأي لا يُفسد للود قضية، لكننا عند أول اختلاف مع بعض المثقفين، تَفرُكُ الحقيقة صدأ معادنهم. والأمر في كل الأحوال لا يخلو من النرجسيّة، هذا المرض النفسي الذي يهيمن على عقول العديد من المثقفين، والأدهى من ذلك هو أن الكثيرين يعدون النرجسيّة حالة طبيعيّة مثل الاعتداد بالنفس أو الثقة باتّخاذ بعض القرارات، وهي في الحقيقة -أي النرجسيَّة- عيب أخلاقي وانكسار نفسي. 

كل سلوك يمارسه المثقف، سواء كان عنفاً أو مرونة ولطفا، هو انعكاس لصورة المكان والبيئة التي جاء منها. السلوك هو المرآة التي ترينا طبيعة المجتمع؛ لذا فأغلب النزاعات والخصومات هي نتاج الأيديولوجيات والانتماءات والأحزاب والمعتقدات والانخراط ضمن الجماعات، ويضاف لها الجهل، لأنَّ الكثير ممن يتعبرون أنفسهم مثقفين، هم جهلة في واقع الأمر، لأنّهم يستقون قياساتهم وتقييماتهم من خلف السدود والحواجز والأبواب المغلقة، ولا يتقبلون رأي الآخر، وهذا ما يعيقهم عن الحوار ومنح الفرصة للتعلم من بعضهم البعض. وتكون النتيجة أن كل واحد يظن أن عشيرته هي الأعلى وان طائفته هي الأفضل، ومرجعياته هي المآل الآمن، والكتب التي قرأها هي التي تقول الحقيقة الكاملة، وهو لا يعرف بأنّه يدافع عن أفكار ليست أفكاره وليست من اختياره في كل الأحوال، بل اكتسبها بالمصادفة، ولو قُدِّرَ له أن يولد في مكان آخر لاعتنقَ ديناً آخر وانتمى لثوابت أخرى وتقاليد لا تخطر له الآن على بال. 

الحياة سهلة وبسيطة وحانية، لكننا نحن البشر من يصعّبها غالباً ويجعلها لا تُطاق. ومرد ذلك في أساسه يعود الى عدم استماعنا لبعض، فالاستماع واحدة من أعظم صفات الإنسان المتقدم، فحين تستمع إلى الآخر، فهذا يعني أنك تحترم رأيه، وهذه أول خطوة لتقليل الخلاف. 


التحرّر من المهيمنات 

الشاعر ولاء الصواف لفت إلى أهمية تحرر المثقف من المهيمنات العقديّة وتخليص ذاته من كل الأدران التي تحبط من وظيفته، وبناء ذاته والارتقاء بها أولاً وتشذيب سلوكه للوصول به الى المعنى الإنساني الكبير وأن يتحلى بأقصى درجات الشجاعة الفكريّة.

وأضاف الصواف بقوله: على المثقف الآن عندما يدخل في حوار مع أقرانه أن يكشف الحقيقة وأن يفضح الايديولوجيات التي تتآمر على المجتمع وأن يتنازل عن التابوهات الضاغطة العرقية والقومية والمذهبية، وما نلمسه في الحوارات المبثوثة عبر الوسائل المختلفة المقروءة والمسموعة والمرئية هو الاصطفاف والتخندق والتسور على الذات مع مهيمنات البيئة التي انتجته في ما يخص المسائل الخلافية من دون النظر الى وظيفته في كشف الحقائق؛ لذا أعتقد أن هذا الأنموذج من الحوار بين متعلمين وليس بين مثقفين.

الايديولوجيات غايتها السلطة وتحتكر الحقيقة بوصفها أي – الحقيقة – هي الوجه الآخر للحرية، فتقوم هذه الايديولوجيات بتصدير منظومة فكرية تتساوق مع منهجيتها وتجند مجموعة من الدعاة تطلق عليهم بـ (المنظرين والمثقفين) لبث افكارها وتغذية الخلاف القائم بينها وبين الآخر المختلف فكريا عنها، مما تسبب في ارباك السلم الأهلي والدفع باتجاه إرساء الحواجز والموانع بين المكونات. المثقف الحقيقي أسمى من الانجرار مع هذه المنظومات وإن كان فهو يؤشر خللاً واضح المعالم في شخصيته وكينونته الثقافيّة. وقال أيضا: الأنساق الثقافيّة التي نشأ عليها المثقف كالأديان والأعراف والقيم الاجتماعية المتداولة، بوصفها ضواغط مباشرة على المثقف تفعل فعلها المؤثر جدا في الخطاب الثقافي ومن ثم انتقاله أي – الخطاب -  بين أفراد المجتمع كسريان النار في الهشيم ودائما ما يكون المثقف عرضة للوقوع في هذا الفخ المعد له سلفا؛ لذا من الواجب على المثقف تبيان وجوه الخطاب وأن يعمل على تشذيبه وإبعاد كل ما من شأنه إلحاق الضرر المباشر بتركيبة المجتمع وبناه التحتيّة الأخلاقيّة والمعرفيّة.

لا أفهم معنى ممارسة العنف من قبل بعض المثقفين في وقت يجب ان يكون بعيدا عن هذا المفهوم وإلا يجب أن تتغير وظيفته من مثقف إلى مسمى آخر.

البيئة العراقية، نعم، صعبة، ولا تمتلك من الجودة ما يمكن أن يشار إليه بالبنان، لها حواف حادة ومنزلقات خطيرة ونقاط حرجة، وأقصد في البيئة بكلياتها (الطبيعية والجيوسياسية والاقتصادية وكذلك جغرافية الحروب)، فهذه الأرض لم تهدأ يوماً، وتشكل عوامل ضاغطة نفسيّة على المثقف ولا نستطيع بمكان إهمالها لأنّها فاعلة وبقوة وموجهة في كثير من الأحيان للخطاب السياسي والثقافي على حد سواء. 

الدفاع عن النرجسيّة كما أراه واحداً من أولويات الطبقة المثقفة، واعتقاده بربوبيته وصنميته ووحدانيته من دون الآخرين يولّد العنف غير المبرر في كثير من الأحيان أو ربما في جلّها وهذا الشعور مؤشر مهم لعدم اكتمال بناء الذات وتحسين السلوك والوصول الى درجة سامية من المعرفة.. مركب النقص هذا موجود وبوفرة. 


صراع القديم والجديد 

أما الشاعر صادق الطريحي فقال: لا شكّ في أنّ المسائل الخلافيّة موجودة عند جميع المشتغلين بالعلوم الطبيعيّة أو الإنسانيّة، بدرجات متباينة حتما، فهي موجودة بين الفقهاء، والنحاة، واللغويين، والمؤرخين، الخ.. ولو أخذنا مثلا الخلافات اللغوية بين عباس محمود العقاد والأب أنستايس الكرملي في النصف الأول من القرن العشرين، لوجدنا اعتداد كل طرف بنفسه، مدعيا أنه الأعرف باللغة، من دون أن يتنازل أحدهما للآخر، ولا شك في أنّ هذا الخلاف تجاوز الخلاف العلمي إلى دوافع شخصية ما. غير أنه قدم محتوى علميّا جيدا للمتلقين.

ولعل بوادر الصراع بين القديم والجديد في الأدب قد ظهرت أيضا في النصف الأول من القرن العشرين، واتخذ هذا الصراع اتجاهات متعددة، ولا أجد ما أضيفه هنا؛ لأن الأستاذ الدكتور محمد حسين الأعرجي، قد استوفى دراسة هذا الصراع في كتاب علمي رصين.

وأضاف الطريحي قائلا: في النصف الثاني من القرن العشرين حتى هذه اللحظة ظهرت لدينا كثير من الصراعات الحزبيّة والعقائديّة، حول السلطة، فاستبعدت كثيرا من الأسماء من المشهد الثقافي أو الإداري، وظهرت بوادر الحقد والمقاطعة بين الأدباء المختلفين حزبيّا وعقائديّا، وصار كل واحد يدّعي الريادة والأصالة لنفسه، ويتهم الآخر بالتقليد الأدبي، أو الاحتماء بالسلطة، أو الانتقاص من التراث (وهي تشبه تهمة الزندقة في العصر العباسي التي ذهب ضحيتها كثير من الأبرياء) ولا شكّ في أنّ للسلطة العسكريّة الحزبيّة الحاكمة الأثر الكبير في توسيع شرخ الخلافات هذه، فضاعت منا موضوعية النقد أو البحث الأكاديمي، لأنّنا اقتصرنا على أدباء السلطة فقط، ثمّ رفعناهم إلى منزلة أدبيّة عليا، هم لا يستحقونها، أو أنّ هناك من يماثلهم في هذه المنزلة، لكن النقد الأدبي أو الأكاديمي لم يلتفت لهم!! ومن المؤسف أنّنا قد أعدنا تدوير هذه الأسطوانة بعد العام 2003، بصورة أخرى!! ومن الملاحظ أنّ ظاهرة العنف السياسي، والشعبي قد ازدادت بعد أحداث العام 1958، وقد اتخذ هذا العنف طريقه إلى الثقافة فظهر في أنساقها المضمرة وغير المضمرة.

الجيل السِكِّيني 

من جهته، قال الشاعر نبيل نعمة: عودة بالزمن إلى المشهد الثقافي العراقي إبان بداية لظهور الملامح الأولى لمفهوم المثقف، وأقصد بذلك الحقبة التي بدأ فيها المثقفون بالتنظير لنتاجاتهم، والتفكير بالثقافة بوصفها مشروعا، ليكون جيل الرواد هو المنطلق المنهجي لبروز ظاهرة المثقف، بعد أن كان المشهد مقسماً بين الشعراء وحدهم، دخل الناقد كشريك في إدارة المشروع من خلال التنظير والتقعيد والنمذجة، هذه الحقبة فتحت الباب على مصراعيه للأجيال اللاحقة وأخص بالذكر الجيل الستيني، أو ما أُطلق عليه تعمدا بـ (الجيل السجيني) - نسبة للسكين باللهجة العراقية - لاحتدام المواقف الثقافية التي وصلت حد القطيعة بين شعراء تلك المرحلة، بعد الستينيين دخلت مغذيات مصاحبة لإثارة الصراع بين المثقفين تتعلق بالأدلجة والانتماءات استمرت حتى نهاية الجيل الثمانيني، لكنها لم تتوقف عند الجيل التسعيني الذي واكب أتون حربين وحصار ومجاعة، تطور مفهوم التنافس فيه بشكل لافت بين مئات من الشعراء والكتّاب والمثقفين الذين عاشوا (اللحظة الحرجة) بتعبير أحد المثقفين، هذه اللحظة شهدت معارك أدبية بين الأجناس والأشكال والأنواع، وكانت شاهدة على ظهور بيانات مهمة أسهمت بعد ذلك في رسم خارطة كاملة لجيل من الصعب في مكان ما أن يتكرر. التحقيب أو التجييل كان صورة لظهور ملامح الصراع بين المهمومين بمشروعاتهم، هذه الصورة برغم ما حملت من عنف لم تخرج عن أسوار الثقافة، سواء كانت متعلقة بالمؤسسة أم بالأفراد، مرتبطة بالسلطة أو منزاحة عنها، شكلت ظاهرة أم انتهت بحالات، الزمن بعد كل حقبة كان يعيد نفسه للإنتاج والقلق والإلهام. الانتماء للأنساق المجتمعيّة، هو الآخر صار أحد المغذيات لبروز العنف الثقافي، لكنه كان على نطاق ضيق، أسهمت التيارات الطارئة التي اجتاحت البلاد في فترات حرجة على تنميته، وتغويله في بعض الأحيان، لكنه كان كحدث عارض اِمَّحى بعد زوال المؤثر. 


بين الموت والصمت 

وقال الشاعر اسماعيل الصيّاح: ابتداءً يجب ان نسأل أنفسنا من هو المثقف قبل إجابة كل تلك الأسئلة الواردة يقول المفكر المغربي محمد عابد الجابري (ذلك الشخص الذي لا يكتفي بممارسة النشاط الفكري النابع من الوعي والفهم وسعة الأفق فقط، بل هو صاحب رسالة يبحث عن كشف الحقيقة، ويكون شجاعاً في الدفاع عنها. أو بمعنى أكثر دقة: المثقف الحقيقي هو من تتحول عنده الأفكار إلى نماذج ومُثُل ومبادئ لا تفرق بين عقيدة وعقيدة، أو لون ولون، أو جنس وجنس، أو توجه سياسي وآخر؛ بمعنى أن المثقف هو ضمير المجتمع، وهو المعبّر عن آلامه وآماله، وحامل مشعل النور في سبيل البلوغ لنظام سياسي واجتماعي أكثر إنسانيّة وعقلانيّة، لأنّ الثقافة سلوك وليس سفسطة وحسب. “المثقفون في الحضارة العربية”.

لكننا اذا نظرنا الى العلماء والأساتذة والأدباء والفنانين والكتاب وغيرهم بحسب تعبير الفيلسوف الماركسي الإيطالي، غرامشي “كمثقفين عضويين” والذي يقول (إنَّ المثقفين بما هم مثقفون لا يشكلون طبقة مستقلة بل إن كل مجموعة اجتماعيّة لها جماعة من المثقفين خاصة بها او هي تعمل على خلقها، وظيفتهم  لها القيام بدور أداة الهيمنة وتحقيق الانسجام داخل المجموعة وبذلك يتحدد وضع المثقف من خلال الدور الذي يقوم به في السياسة والصيرورة التاريخيّة فيكون مثقفا تقليديا عندما يرتبط بالمجموعات القديمة والطبقات الآيلة للزوال ويكون مثقفا جديدا ناقدا عندما يسهم في تعبئة المجموعة الاجتماعية الصاعدة وبلورة مطامحها وأهدافها. 

وأضاف الصيّاح موضحا: بعبارة أخرى إن المثقفين أما أن يكونوا أدوات للهيمنة على مستوى المجتمع المدني، الهيمنة التي تمارسها المجموعة الاجتماعية المسيرة على مجموع الجسم الاجتماعي، وأما أن يكونوا أداة من أدوات السيطرة على المجتمع السياسي، مستوى الحكم الذي يمارس عبر الدولة وفقا للقانون.

ويمكننا القول إن المثقفين الحقيقيين هم أكثر تعرضًا للجهات التي تمارس العنف سواءً كانت الأنظمة والسلطات أو الجماعات العنفيّة، فصار المثقفون بين خيارين كلاهما مر إمَّا القيام بمسؤوليته وواجبه كمثقف يمارس دوره في النقد والتوعية والتزام قضايا الشأن العام وهو ما يعرضه للمخاطر التي تودي بحياته أو سجنه أو تعذيبه، أو أن يصمت ويضيع دوره كمثقف وتنتفي عنه صفة الثقافة، حيث لا بدَّ أن يسعى المثقف إلى ترسيخ ثقافة الاختلاف وقبول الآخر.

وفي ذلك إجابة واضحة للأسئلة الواردة في الاستطلاع، والخلاصة (لا يوجد مثقف عراقي حقيقي إلا الندرة النادرة والذين ليس لهم دور فاعل في الحياة الاجتماعية والسياسية للأسف

الشديد).