حالات ذهنيَّة مشحونة بالتساؤل

ثقافة 2023/01/11
...

رنا صباح خليل 


تقدِّم الروائية الإسبانية ليدي سالفير في روايتها (لكلِّ إنسان ليل) الصادرة عن منشورات سول الفرنسيَّة والتي قامت بترجمتها عدوية الهلالي، أسلوباً روائياً يعتمد تدفقات ذهن الشخصية، ورصد ومضات وعيها وما ينتابها من حالات شعورية تتولد لديها بفعل الإحساس المركب بالاغتراب في بلد أجنبي والإحساس بالمرض وكيفية التعامل معه، وهذا الأسلوب هو ما أطلق عليه (ليون ايدل) بـ(جو الذهن) وهو تعبير يكشف عن الجهد المبذول الذي يقوم به الكاتب في الروايات التي تأخذ منحى نفسياً(*).

فقد أدرك ايدل ونقاد آخرون أنَّ التعبير في هذه الحالة متعلق بنوع الأذهان الموجودة في حيز الرواية فأيهما يتم اختيارها لينطق بها الراوي ويصوغها بلغته وأسلوبه الخاص، ذلك أنه كلما كان الذهن أكثر بلادة كان على كاتب الرواية أن يكون أوسع حيلة في إيجاد أساليب تصوغه ببراعة وقدرة تجذب القارئ إلى تلك الشخصية وما يقع في ذهنها، وفي هذه الرواية التي نتحدث عنها هناك شاب فرنسي من أصول إسبانية يدعى «أنس» يبلغ من العمر 35 عاماً، يصاب بصدمة بسبب إصابته بالسرطان، واضطراره إلى الخضوع للعلاج مدى الحياة، فيقرر التخلي عن وظيفته كمدرس فرنسي وعن زوجته ومنزله ومنطقته والهرب بعيداً للانزواء في قرية جنوبية تقع على بعد 500 كيلومتر بالقرب من مدينة بارون، حيث يقدم له معهد سانت كريستوف العلاج المناسب مرة واحدة كلّ أسبوع، يحاول أنس أن يبقى متحفظاً قدر الإمكان، لكنه يصبح مشبوهاً على الفور ويجري رصده ومراقبته، ما يسبب له الكثير من المتاعب. 

تتكئ الرواية على ثيمة رفض الآخر الغريب في قرية أوروبية لا تتقبل أعرافها التعامل بودية مطلقة مع من يخالفهم عرقاً وتاريخاً ولغة، فتصور الرواية بذلك صدمة الذات أمام هول الواقع المر الصلب المظلم المحيط بها في رؤية فجائعية، تتأتى من الإحساس بعمق الهوة بين عالم الذات والعالم الخارجي الذي يخالفها ويلونها بعفونته وترديه، فقد جاء في الرواية: «ربما علي أن أتقبل ما لا يمكن تفسيره بانتظار أن أعرفهم بشكل أوضح، وأن أخاصمهم، لكني لم أتمكن حتى الآن من القيام بذلك، كنت أريد أن أفهم، كنت أريد حتماً أن أفهم لكي لا أعترف بالإخفاق وأقع بين براثن اليأس التي ألقاني فيها مرضي في بدايته.

ربما يعدّ هؤلاء الرجال الذين لم يغادروا قريتهم يوماً ابتعادي عن بلدي بمنزلة خطأ يستحق الاحتقار ويمكنهم معاقبتي عليه؟».

ص51 من الرواية. 

ومع اشتداد وطأة الإحساس بالرفض ذاك برز الموت في الرواية في أحايين كثيرة كفضاء متعدد الأبعاد ليضطلع بدوره النفسي على الشخصية وبحضوره الجمالي الفني بفعل تماهيه مع مختلف عناصر البناء الروائي، لينتظم بها أو يتقاطع معها وربما يتشكل على صورها كأن يكون الموت نظيراً للراحة وتكون تمثلاته في ذهن الشخصية قابعة في شاهدة على قبر كان يتمنى (أنس) أن تكون له، لكن تلك المنولوجات التي تقوم بها الشخصية استطاعت أن تنبت لنا حيوات أخرى تتمثلها لحظات تجمع أنس بحبيبته مينا في إدراك وترسيخ لديمومة فكرة مفادها أنَّ اتساعات الحياة لا تحدها رغبة انفرادية بالموت أو الإقصاء والابتعاد عن الناس، فإذا كان الموت انفصالاً عن الحياة، فإنَّ مقاربة الرجل للمرأة اتصال بها واتحاد معها وانصهار فيها، وهي العلاقة التي ترجع الشخصية لاكتشاف ذاتها المتشظية الضائعة في تخوم تهويلات المرض، والاستكانة لفكرة الموت، خاصة أنَّ الشخصية كانت مؤمنة أنَّ بمقدورها إعادة اختراع حياتها وتشكيلها بعد أن غزاها اليأس شرط الذهاب إلى مكان بعيد للتخلص من الشخصية السابقة غير المرغوب بها، وليس هناك دالة على نشوء بذار جديد للحياة مثل دلائل وجود المرأة، الأمر الذي جعل أنس الذي جاء لتلك القرية بهدف محو نفسه بهدوء والموت بعيداً عن العائلة، قد انجذب لإثارات متعددة من التساؤل والتفكر والمناقشة مع الذات بعدما بدأ يرى الرفض والنظرة المستهجنة من قبل شخصيات القرية وآرائهم الغريبة حوله وبعد أن وصل بهم الأمر لأن يتهموه بانتهاك هدوء القرية وبأنه شيء شاذ فيها، رغم أنه لم يكن لديه هدف سوى الانفصال عن نفسه بشكل ودي، ولم يكن يتحدث كثيراً ولم يقم بما يؤذي أحداً منهم على كثرتهم، فالرواية كانت تضم الكثير من الشخصيات وكان أهمها صاحب مقهى الرياضة مارسيلين لابلاس زوج فيلومينا الأندلسية ووالد أوغسطين، وزبائن مقهاه ديدي وإميل وجيرار وجاك وإتيان.. وكانت تدور في المقهى نقاشات يتزعمها مارسيلين حول رفض الغرباء، الذي يتحول إلى عاصفة ضد الأجانب والمثقفين والنخب وسكان المدن، ويبرز بين الزبائن جاك جوليو المدرس الفرنسي الذي يتردد بين تأييد هذه المجموعة وأفكاره الكبيرة المعتدلة، وهناك أوغسطين لابلاس، نجل مارسيلين الذي كان يقاوم أفكار والده قدر استطاعته لأنه يقرأ الكتب بشغف، وكان هناك عمدة القرية الذي يتعامل بلطف مع أنس، لكنه يعترف بأنَّ من الصعب عليه معارضة مارسيلين. 

لقد دلت التساؤلات الذهنية في الرواية على أمرين مهمين: أولهما دلّ على عملية الاختراق العميق التي قام بها الراوي لدواخل أنس ودواخل صاحب المقهى ورواده بغية الكشف والإخبار عن كل ما يقع في تلك الدواخل من مشاعر وأفكار وخفايا مكبوتة وغير معلنة من قبلهم بأسلوب لفظي ذهني متعلق بأسلوب صياغة سردية خاص بكل شخصية، والآخر دلت تلك التساؤلات أنَّ لهذا الراوي القدرة الفائقة التي تمكنه من الاستقرار ذهنياً داخل نفس وذهن كل من أنس والشخصيات الأخرى على حد سواء؛ وتمكنه من النقل الحي لأحداث وتصورات ورؤى داخلية وقعت في يوميات تلك القرية، وقد جعلت هذه القدرة عملية النقل الحي لمشاعر انس من لدن الراوي لا تخلو من الترتيب والتنظيم المنطقي المبرمج لتلك الدواخل 

والمشاعر. 

* ينظر: القصة السايكولوجية، دراسة في علاقة علم النفس بفن القصة، ليون ايدل، ترجمة: د. محمود السمرة، منشورات المكتبة الأهلية، بيروت1959.