علي رشيد الفنان الذي أشاع البياض

ثقافة 2023/01/11
...

 سمير عبدالجبار


الكتابة عن علي رشيد هي كتابة عن سيرة ذاتية. كنت أنا جزءا من أحداثها وتفاصيلها، وهذا ما جعل حيواتنا تفصيلا أو مرآة من حياة الآخر. جمعتنا كربلاء المدينة الكوزموبوليتية التي كانت معمّدة بالطقوس الزاخرة بالفنون والنصوص الشعريَّة. فيها تفتحت مواهبنا وخضنا أول تجاربنا في الفن والحياة. لكن المدينة تركت سحابة من حزنها التاريخي في أرواحنا، كونها شهدت واقعة الطف، وفجيعة مقتل الحسين شهيداً. 

لا أبالغ لو قلت إنَّ الحياة عاندت علي رشيد باكراً، بل أورثته الكثير من الخسائر، والأوجاع. كان حلمه أن يعبر بموهبته نحو باريس لدراسة الفن بعد أن قمعت موهبته داخل الوطن بسبب مواقفه السياسيَّة "انتمى للحزب الشيوعي مبكراً" لكنه رجع من رحلة خائبة نهاية السبعينات من القرن الماضي، وبدلا من أن تصل به تلك الرحلة إلى السوربون عادت به إلى حرب الثماني سنوات التي جلدت حياته بسواترها، وتذوق جسده سعير شظاياها، وأورثته فجيعة الفقدانات ومنها رحيل أخيه الأصغر وصفي في العشرين من عمره في تلك الحرب حيث غاب بين سواترها، وبقي جسده كما رحيله مجهولا.

 كان وصفي رساماً واعداً أتذكره جيداً. خلف غيابه في قلب علي شدخا لم يشفَ منه بعد رغم مرور ما يقرب أربعين عاماً على ذلك الغياب. أعرف كم الوجع الذي خلّفه رحيل وصفي لأنّني أيضاً خدش قلبي برحيل أخي الصغير محمد وبالعمر نفسه وفي الحرب نفسها.  

رغم كلّ ذلك وبدلا من أن ينساق رشيد نحو الألوان القاتمة، والأسود خصوصاً صاغ من اللون الأبيض تعويذته لينتصر بها على خسائره. رسم بالبياض على البياض. كثيراً ما راقبته وهو يرسم عند زياراتي له من باريس للاحتفاء بصداقتنا كان اللون الأبيض يملأ باليت الألوان وكانت يده تنسج ما يبيح به الخيال.

 الرسم عنده ليس تراكميا، بل على العكس هو نوع من الإزاحة، والاركيولوجيا للوصول إلى الأثر الغائر، إلى الحيوات التي لم تعش، إلى استنطاق البياض ليبوح بشاعريته وليومئ لنا إلى السحر الكامن فيه.

كمسرحي كنت كثيراً ما أرى هذا الحس البانتوميمي الساحر في أعماله التي تحيلني ببياضها إلى السعادة، والبهجة، والطاقة. لكنها سعادة تتكئ على حزن صاحبها كما في المسرح غالباً ما يضحك المهرج جمهوره، ويشيع جواً من السعادة البيضاء لكن حين الاقتراب منه نكتشف كم الوجع في روحه، وبوجه حزين يُغالب البكاء.

 التغالُب على هذا الحزن والتراجيديا التي تشيع الفرح في المسرح هو لون رشيد الأبيض الذي يقيم الحداد على عالم ينزاح نحو الهاوية. ببياضه الذي يقترب من رمزيَّة هذا اللون عند اليابانيين وتعبيره عن الحداد لديهم.

يشير لنا رشيد إلى ما لا يرى لا ببكائيَّة، بل كحالة من الصفاء، والنقاء وبرشاقة العارف كما عند الصابئة المندائيين. ليس من السهل لأيِّ فنان أن يرسم كما هو بالبياض فقط، ليحيلنا لنصوص بصريّة تجعلنا ننقاد معها لحوار لا ينتهي، بل على العكس يتجدد كلّ مرة نعيد النظر لأعماله. كما لو أنّك تغرف الكثير من هذا القليل الذي لا ينتهي، من برهان حسِّي لا تراه إلا القلوب.

بياض رشيد مُعدٍّ، ومؤثر انقاد له العديدون لكنهم لم يصلوا به إلى الثراء المعرفي والجمالي، بل بقيت أعمالهم تتعثر ببياض شاحب يفتقد إلى الحس، والوجدان الذي يتطلبه فعل الفن.

في باريس كما في هولندا أو اسبانيا كان علي رشيد يلتقط عناصره، ومواده من المكان العابر وليس من محلات بيع مواد الرسم. كان يشير إلى القيمة الجماليَّة لبطاقة المترو، أو بونات الشراء في الأسواق التجاريَّة وما فيها من أختام وكودات، أو دفاتر الأطفال المرميَّة بما تحتويه من شخبطة، وكتابات عفويَّة، ورسومات فطريَّة. كل هذه المواد التي يلتقطها ليدسها في حقيبته، تفاجئنا بقيمة عالية، ومعالجة بصرية في العديد من أعماله. يشير رشيد إلى علاقته المبكرة في بداية الثمانينات بالمواد المبذولة، وبقايا الصحف، والآثار التي يتركها الزمن على الأشياء حين كان يفترش السواتر الأماميَّة من حرب الثمانية أعوام. وفي أحد صباحات تلك الأيام الغائمة من عام 1982، وصلت صحيفة مع سيارة الأرزاق التي كانت تمرُّ عليهم لتوصل لهم وجبات الطعام، والماء فوجد في تلك الصحيفة خبراً موجعاً كان عن موت صديقنا الشاعر الكربلائي صاحب الشاهر مع صورة لصاحب. كان خبراً صاعقا لعلي كثف في روحه سحابة من الحزن ومن دون وعي امتدّت يده إلى قلم بحبر جاف ليرسم فوق الخبر صورة صاحب مع جمل شعريَّة بشخبطات حادة وعنيفة يومها التقط كما نيوتن تفاحة لخيال قادم سيقوده نحو جماليات مغايرة، وقيم جمالية في الرسم فوق النص الكتابي قادته إلى تجربة الرسم والكتابة فوق أوراق الصحف المتناثرة حوله فكان القلم يمر بشخبطات حادة بين النص الكتابي ليعبر بخطوطه فوق الصور والإعلانات وعناوينها الحمراء. كانت الدهشة تفتح له خبايا جديدة في الرسم. 

اشتغل علي فترة الحرب عشرات التخطيطات بالأحبار مصحوبة بنصوصه الشعرية مثلت تدوينا يوميا لمفردات الحرب، وفعل إدانتها يمكننا القول إنّها من أهم ما أنتج من تدوين يومي عن تلك الحرب ومن سواترها 

الأولى.

تقترب أعمال علي رشيد الفنان من الشعر الذي يضيف لأعماله هذا الحس العالي المتفرّد. لوحاته تترك فينا أثراً كما لو أنه الأثر الذي نبحث عنه نحن في المتاهة التي نعيشها. الأثر الذي سيقودنا إلى السكينة، إلى الذاكرة التي تبتعد، إلى الطفولة، والسنوات الأولى، والحب الأول. حتى في أحباره يبدو السواد مع علي رشيد بنصاعة بياضه. 

كما لو أنه وشاح خفيف يشف عن جناح فراشة يابانية، أو عصفو يحلق فوق أغصان شفيفة رسمتها الفنانة كيتا باردول حبيبة علي رشيد، وزوجته وتوأمه في الفن والحياة.

تبقى تجربة علي رشيد بتفردها وخصوصيتها تحلق منفردة، فمثلما عاش تجربتة الحياتية القاسية وحيداً يخوض غمار الفن بزورقه الذي يصارع الخيال وحيداً.