في هودج المغانم معاً

ثقافة 2023/01/12
...

 طالب عبد العزيز 

 

تتعجل النور فلا تأت غيمة، وتهربُ في الخرائط، ما أنت في تضاريسها، وتستيقظ في الشاشات، لأنك لست منها بشيء، وما كنت منتهيها إلا الى الندوب.. لذا، خذها مني وعني: أنت الرملة التي أسبقك فيها الى النخل ما حييت، وأنت قطرة الأمل التي احتفظ بها اليك، لأنني القدم التي ستسعى بها لي ذات يوم، ولأنني جرعة الافيون، التي تتحقق فيها من الليل وسرير المستشفى وذئاب الأخيلة. فكن عند حسن ظن النخل بي.   كنتَ تهبطُ قبل المباهج، وقبل تساقطِ الظلال أحياناً، فلا تذهبْ بعيداً، وخذ عنّي ما تيسّر لك من السمك والتمر والأرغفة، فنحن في هودج المغانم معاً. أنت تبصرُ المشارقَ وهي تومئُ، وأنا أودِّعُ المغاربَ وهي تنأى، أنت تخربش في وجهَ المعنى، وأنا أتيّقن من يدك في الظلام، فتعالَ نضفر حبلَ الغربات معاً، نجعله على خصرك مرةً، وعلى خصري أخرى، فاليوم عيدٌ، والناس في بهرج الأسماء حيارى، كلٌّ ذاهبٌ الى نفائسه، وكل آخذٌ كيله الى نهر المسرات، ذاك، الذي ينصِّفُ الطريقَ، ويعطي هذا وذاك نوالَ صبرهِ وانتظاره. في لحظة الغد ما ليس في أبد الأمس، ومن فتوقٍ لا تُسبرُ بالساعات، ولا تُروى بين اثنين، من روح أخلقَ التباعدُ ثوبها، وعجزتْ عن رتقه يدٌ واحدةٌ، والى حيث يقودك الاسفلتُ ستجدني هناك، أفتح على الجنوب باباً لا يُؤتى من الشرق أبداً، وأقترحُ للأرصفةِ وللقياكَ شجراً لا يشيخ في الريح، وأعمدةً من عفوٍ لا تُرتهنُ بالأسئلة...  آيتي أنَّك أخي.    من باب الشَّوق، ومن النَّخلِ المصفوفِ أفنيةً دخل العربُ الخليجيونَ البصرةَ أمسِ، باليشامغ البيض والحمر جعلوا الحدود خلفهم.. وبالشوق، لا أخاله منقطعاً جاؤوا، دخلوا المدينة القديمة من ثغرها التراب، كانَ النهار غائماً، والشَّجرُ مطمئناً، عاقلاً في الأودية.. لكنَّ المطرَ أدركهم عند باب الفندق، فوقفوا، تفتنهم رائحةُ الخشب الأولى، وتدلّهم الأزقّةُ على أسرار الطابوق.. أمضوا الليلة هناك، وفي الصباح تبضّعوا الحلوى، خبيصةِ الزيت بالدبس، المسعّرة بنار الجذوع، المأخوذة في النهار الى ما ينفجر في الأسحار.

   لا، لم ترسُ سفنُهم على ساحل الملح بشط العرب، ولم يدخلوا المدينة من هناك، ولم تحملهم مراكب الخشب الى القرى الغافيات، وما اخترقوا غابة النخل، ولا صعدوا مع المدِّ الى حيث كان المعقل بن يسار، الى حيث كان الجاحظ يخطُّ ويعمى ويشيخ..  هذا أنا، أعقد بيني وبينهم جسراً من الحياء، بعد أنْ مزقت الرِّيحُ أشرعةَ الأمس، وأوتْ الى معاطِنها حيازيمُ السفن والسميريات. عندي قلبٌ يتقوّى بإِحكامِ الذكرى، أكابدُ به شوقاً يوهنُ أركانَ الجسد. العربُ الخليجيون لم يتنسموا روائحَ العنابر، عند مدخل نهر العشار حيث أردتُ، ولم تحملهم العشَّاريّاتُ الى حمدان ونهر خوز والسبيليات... وما أطلعتُهم على مشابك ومخانق العنب والآس والدفلى حيث كانت ذات يوم.    الطائراتُ تحطُّ بهم في بريةٍ الرمل، قرب الشُّعيبة، والمركباتُ تأخذهم من هناك، على الطريق التي ليس على حافتها ضريحُ أنس بن مالك، ولا مدفنُ الحسن البصري، ولا المسجدُ الجامع، حيث برك الجملُ، ووقف الإمامُ عليّ.. فالأمكنة هذه مفازة العارفين، هي تُقصدُ عن بعد، فلا يمرُّ الكرامُ بها إلّا ليقيموا.. ومن هناك، من هناك الى فنادق الدرجة الأولى، هم الآن في الأسرة أو في الشرفات حيث تغزو النوارس فؤاد النهر، في الساحة التي تزدحم، أو على الشاطئ، حيث يصعِّد الماءُ أسماكَه وقواقعَه.. لذا، دعهم يغمسون روحهم في غدير محبتك. دلمونيون من عالمك السفليِّ، ويمانيون من سعادةٍ ناقصةٍ، بجنبيةٍ تحت الثديِّ. عُمانيون من مسقطيّة وظفار، وكويتيون من خؤولة وبحر قريب. نجديون بنخل مشترك وبادية وطريق حج مندرس قديم، قطريون واماراتيون.. الأصلابُ توّحدُ السواحلَ، ترأبُ ما انتكأَ وتصدَّع، ومن الجبل بنجد وصلالة وحضرموت يؤتى بالآراك والحلوى والعقيق والقات.   أعودُ للمدينة التي تخضُّ الريحُ سعفتها الثانية، أدخلها من ثغر الماء هذه المرة، لستُ فرحاً لأصفقَ، ولستُ حزيناً فأنتحبُ، أتطلعُ بوجوه أعرفُ بعضَها، وأخجلُ من ماءٍ لا يصلني بالبحر البعيد.. أريدُ أنْ أعودَ بأغنيةٍ لا تزول بالوقت، ولا تذهبُ في الصواري: يقول صاحبي..  أو أجري خلف بائعٍ السمك القصير، اختفى منذ نصف قرنٍ ويزيد.. ارتطمت خشبةُ مركبه بحجارة الميناء.. الى الآن تعلّق زفرةُ سلالِه بأزقّة روحي. كان يبيعني الحفنةَ بدرهَمٍ، والمُدَّ بدرهَمين... الآن، أُبصرُ مذهبَه في العِشق، فلا أرى حبلَ العَودة بين

عينيه.