الكتابة الفنيَّة.. بين جمال المعنى وقبح الادّعاء

ثقافة 2023/01/14
...

 محمد طهمازي


«الناقد الفني هو فنان فاشل.. طالب فنٍّ فشل في أن يكون فناناً فتوجه صوب النقد.. النقد الفني مهنة من لا مهنة له.. الخ»، عبارات كنا نسمعها ونتداولها في فترة دراستنا ونحن نحبو في عالم أكاديمية الفنون الجميلة حتى ترسّخت في أذهاننا وصارت بديهيّة من البديهيات. 

إنَّ مصطلح «ناقد فني» هنا هو تعبير عن كل من يكتب أو يمتهن الكتابة بكل جوانبها عن الفن والفنانين.

كنت أسال نفسي إن كانت هذه العبارات متطرفة مثلاً أو نابعة من ردود أفعال أو قناعات منغلقة أم أنها تستند إلى بحث علمي رصين لا دخل للعواطف والمواقف فيه.. في ذات الوقت هل أن مطلقيها ومتبنيها هم فنانون ناقمون على نقّاد الفن بين قوسين أم هم نقاد فن متحاملون على أبناء مهنتهم بين أربعة أقواس؟

إنّ الخوض في هذا الموضوع متشعب وشائك في الحقيقة ومثير للجدل أو النقمة بتعبير أدق، ولكن هو بحثٌ لا بدّ منه لتوضيح صورة ما فتئت تقف أو يفرض عليها الوقوف في الجانب المظلم أو تقفل الأبواب عليها بدواعي المصلحة «العامة».. لكني سأحاول الاختصار قدر المستطاع!

علينا أن نعرف أن ثمة نوعين رئيسيين من الكتابة في مجال الفن.. 

الأول هو النقد الفني الذي يستند إلى الجانب العلمي الأكاديمي من فلسفة فن وعلم جمال وعلم نفس وتاريخ فن.. الخ واحتكاك عملي دراسي للعمل الفني ومن ثم ليست كل كتابة في الفن هي نقد فني ولا كل من كتب في الفن هو ناقد فني!

أما النوع الثاني فهو الصحافة الفنية والذي يعتمد على النفس الصحفي مع ثقافة فنية لا بأس بها وهو لا يهدف وليس مطالبا بتقديم مادة علمية او بحثية أو دراسية، لكن في ذات الوقت لا يجب أن ينطلق من «قحط ثقافي»!

 وهنالك كتابة فنية تقف بينهما تفضل عدم تقديم مادة فنية دراسية جامدة ولا مادة صحفية فنية فارغة.. بل تجمع أو يجمع كاتبها بين المجالين في مزاوجة يوصل للقارئ من خلالها أفضل معرفة وأوضح صورة ولا يضجره بالمصطلحات الأكاديمية العسيرة على الهضم أو يغرقه بالأكاذيب والتزويقات الترويجية..

لو عدت لبداية الموضوع لوجدتني قد عرّفت الناقد الفني على أنه كل من كتب عن الفن وهذا هو الشائع وما يراد فرضه على المتلقّي، بيد أن عملية النقد الفني هي فعل تخصّصي وليست فعلاً شائعًا لكل من هب ودب. وأعني بالفعل التخصّصي هو ذلك الفعل الصادر من متخصّص في الفن والتخصّص هنا ليس الدراسة والشهادة فقط، بل والخبرة والاستغراق المعرفي والثقافي والتذوقي في هذا المجال..

الآن نسأل أنفسنا.. ما الموجود في الساحة من الكتابات ومن أي الأصناف الثلاث المذكورة؟

الجواب وبكل تجرّد وحياديّة: إن الموجود في الساحة هو من الثلاثة، ولكنهم افتراضيون، وهنا أستخدم كلمة الافتراضي بدلاً عن كلمة «الفضائي»، ليس تماشيًا منهم مع الثقافة «الفضائية» السائدة، بل إنهم كانوا السبّاقين إلى هذا الميدان الضحل.. فالذين يفترض أنهم يكتبون نقدًا فنيًّا علميًّا لا علاقة لهم بالتخصّص الفني ويختبئ كلٌّ منهم وراء المصطلحات ولوك العبارات التي التقطوها من هنا وهناك من دون فهم وفي الغالب لا علاقة لها بالموضوع الذي يتناولونه.. أما أولئك الذين يكتبون المادة الفنية الصحفية فهم لا يمتلكون أدنى ثقافة في الفن ولا حتى ذائقة فنية ولا يعون عمّ يكتبون.. وكلا الفريقين لا همّ له سوى ادعاء التخصّص النقدي والفني تمامًا مثل جمهور مدعي الفن الذين خرجوا من عباءة هؤلاء وصاروا (فنانين) وما زالوا يتوالدون بوتيرة متصاعدة منذ سنين طوال مثيرين غيوم التلوّث البصري وادعاءات الأساليب الزائفة.  

إننا في هذا الخضم الكبير من النشر والكتابات المتهالكة في أغلبها يفوتنا أن نتذكر بأن الغاية من الكتابة بعيدة كل البعد عن تعبئة الصحف والمجلات بالمواد أو تراكم المنشورات في ما يسمى بمواقع التواصل الاجتماعي.. إن الغاية الحقيقية من الكتابة والكتابة الفنية تحديدًا هي إيجاد جو معرفي وتذوّقي يساعد المتلقي على اكتشاف القيم الجمالية والمعنوية والفلسفية وحتى التزيينية التي هي من جملة ما يؤديه الفنان عبر أعماله الفنية الإبداعية.. يقول جيمس جوردان: «إن النظرة الكتابية للعالم لا تُعطى لنا في اللغة الخطابية والتحليلية للفلسفة والعلوم، ولكن بلغة غنية ومضغوطة من الرمزية والفن..».