الحاجة إلى ديكارت

ثقافة 2023/01/14
...

 حازم رعد 

من التعبيرات الرمزيّة استعارة أسماء بعض الفلاسفة الذين ارتبط ذكرهم بمفاهيم وانجازات معينة يحسب الفضل لهم في إنجازها، وواحد من اولئك الافذاذ الذين ما انفكت الكتابات والدراسات الفلسفية من استحضار ذكره هو رينيه ديكارت رائد العقلانية وصاحب الكوجيتو والذي أعتبر الفيصل في طي صفحة فلسفة القرون الوسطى وانبلاج فلسفة العصر الحديث، ففضلاً عن اسهاماته المعرفية يكون هو ارهاصة في منعطف التاريخ.

إن القول بالحاجة إلى ديكارت تعبير يوجز لنا افتقار الواقع إلى اشغال العقل "الذي تمظهرت مع ديكارت سبل اشتغالاته" في قضاياه ومسائله وأحداثه هذا الواقع الذي امتلأ بالفوضى والارباك والتزاحم بسبب ابتعاده عن العقلانية والنشاط المقبول، من أين كانت محطة البداية في مشروع ديكارت الجديد "التغيير في منظومة الفكر والمعرفة البشريتين" لم يبادر ديكارت -بشكل مباشر- إلى ضرب أسس ومباني الفلسفة التي كانت سائدة آنذاك [فلسفة العصر الوسيط التي هي اجترار مع طفيف من التغيير الشملي للفلسفة القديمة] أي التي سبقت عصر ديكارت تلك الفلسفة التي رافقته ايضاً هو لم يتخلص منها كلياً، وكان يتحاشى الاصطدام بها بشكل مباشر، الفلسفة القروسطية والفلسفة المدرسية وهي في الكثير من محطاتها مسيحية أو مرتبطة بالمقول الديني والتي وصلت من الاسلاف يحملها على عاتقه جيل بعد جيل، لأنه كان يدرك أن ذلك سيجلب إليه المتاعب ويلفت إليه انظار عامة السلطة التي كانت حريصة على ترسيخ الفلسفة الكلاسيكية والمعرفة الدينية السائدة التي ورثوها من تلكم الأجيال، كما أسلفنا، دونما تصحيح ومراجعة ونقد، كان يدرك أن مشروعه التحديثي قد يجهز عليه إن هو أقدم بشكل مباشر على هذا الأمر بلا مراعاة الظروف المحيطة والمناخ المسيطر المتأثر بالفلسفة المدرسية، أو من دون دراية واختيار طرق متنوعة ومختلفة تؤتي ذات النتائج المنشودة، وعندئذ كان أن قصد إلى تجديد المنهج المتبع في بحث الموضوعات التي تهم الكون والإنسان وتشغل حيز تفكيره، كان يدرك أن بناء الأدوات وطريقة استخدامها ووضع قوانين للبحث هو الذي سيحدث طفرة معرفية وفكرية تعود على جميع الانساق السائدة بالتحديث والتغيير، أدرك أن المنهج هو الذي يتكفل عملية التصحيح واصلاح منظومة المعرفة وطريقة التفكير. ولعل أداته الشهيرة وهي "الشك المنهجي" الخطوة الأولى على طريق المراجعة التصحيحيّة، ومن ثم الإطاحة بمنظومة الخرافات والأساطير التي أحكمت هيمنتها على الذهنية الخاصة والعامة، آنذاك، فالشك لديه كما تقول جاكلين روس يعبر عن إرادة لفصم العلاقة بالمعارف السابقة، فهو يزيل كل ما سبقه من آراء من جذورها. وبعد ذلك هو على موعد مع تحصيل أمور عدة مهمة التغيير والاصلاح على مستوى التأسيس للموضوعات الجديدة، وطرح السائد بشكل تدريجي، واعتماد آليات وأدوات حديثة يعتمدها في البحث الفلسفي والمعرفي لإنتاج حقيقة ومعرفة واضحة المعالم مبرهن عليها، ولهذا السبب كان ديكارت نقطة فارقة في الفلسفة ووسم بأنَّ عصره كان محطة التحقيب لتاريخ الفلسفة. إنَّ الحاجة إلى إجراء تعديلات على المناهج التربوية والتعليمية صار ضرورة ملحة جداً نظراً لتهرّئ القديم وعدم جدواه في مواكبة متطلبات الواقع والتي منها اللحاق بالتنمية التقنية والمعرفية [فالمناهج السيئة تصنع تعليماً سيئاً وعقلاً جامداً مهيّأ بنيوياً لأي تطرف وغياب القدرة على التفاوض مع أي آخر] كما يقول محمد الطوالبة في كتابه الفلسفة والحياة، كذلك أن ضرورة طرح الاشكالات على الكثير من المتبنيات أمر في غاية الاهمية لأنها بصريح العبارة باتت تشكل عقبة ومعوقا في طريق التقدم والتطور. هناك بعض الادبيات التي ورثناها عن السابق، كذلك هناك من الافتراضات الادبية التي اصطنعناها لأنفسنا من دون تحليل الأسس التي على وفقها تم تبنيها حتى استفحلت في النفوس وشكلت معوقا حقيقيا أمام التنمية، لا ريب كذلك في الحاجة الى تجديد الخطاب الشخصي الناظر إلى الكون وعلاقة الكائن بالآخر وطريقة ممارسة الحياة في ظل التقدم المذهل للعقل التقني الأداتي الذي أضفى بظلاله على معظم حياة الإنسان وحولها إلى حراك إلى مجرد من المشاعر والاحاسيس في أغلب الأحيان، فتجديد الخطاب يبدأ من اعادة النظر في الرؤية والفلسفة التي قام عليها العمل والسلوك والظهور للآخر بلبوس الممارسة في الواقع. إذن نحن في المعاصر في أمس الحاجة إلى عقلانية ديكارت لكي تتصدى لألوان التطرف والعصبيات التي تسود المعيش واليومي وتؤطر المخيلة العامة بحيث جعلتها لا ترى النور، ونحن بحاجة إلى شكوك ديكارت التي تكسر المسلّمات والتأثير والتقليد ليقوم بعد ذلك العقل منتفضاً للبحث عن الحقيقة المتلبدة في الذات "الفطرة"، وفي الواقع والأشياء، وكذلك الواقع يتطلب منهجاً يكون قريباً من معاناة الناس كما يصفه ديكارت فالمناهج الفلسفية، وبسبب عزلة الفلاسفة وترفعهم عن الواقع ونظراتهم المحملة بالمفاهيم الضخمة أثقلت الواقع بمناهج بعيدة عن حياة الناس ومشكلاتهم وأبعدت الفلسفة عن النظر في هذه المعاناة ومعالجة ذلك البؤس.