مسرحية {ابصم بسم الله}: البحث عن الخلاص

ثقافة 2023/01/14
...

  رضا المحمداوي

 

حقّقَتْ نصوص الكاتب والفنان العراقي الراحل سعد هدّابي حضورها المسرحي المتميز في المحافل الفنيّة وفي أكثر من دولة عربية، كما تمَّ تتويج تلك النصوص وعروضها الفنية بالجوائز المسرحية، ولم يأتِ ذلك اعتباطياً أو في مجاملة عابرة، بل جاء نتيجةً لما حفلتْ به تلك النصوص من أفكار ورؤى وما انطوتْ عليه من غنى وثراء درامي كان يحفز ويدفع بفنانيّ المسرح للتفاعل المتجدد مع نصوصه وإعادة إنتاج أفكارها ومعانيها. وفي العرض المسرحي (ابصم بسم الله) لمخرجهِ وممثلهِ الفنان عبد الأمير الصغير بالاشتراك مع الفنانة الشابة إسراء ياسين، والذي قدّمتْهُ مؤخراً نقابة الفنانين بالتعاون مع دائرة الثقافة والفنون في وزارة الشباب، على خشبة مسرح الشباب (الطليعة سابقاً) كأني بالمؤلف الراحل سعد هدابي قد بُعثَ حياً من جديد من أجل التعبير ليس عن محنة الإنسان العراقي فحسب وإنما عن محنة المواطن في الدول العربية وفي عدة دول أخرى في أفريقيا وآسيا، وهو يركب البحار الهائجة ويبحر في قوارب الهجرة المميتة وسط أمواج الغربة والعذاب والمعاناة ومواجهة المصير المجهول بحثاً عن ملاذ آمن تحدوه بذلك رغبة (أو فكرة) البحث عن خلاص من مأزق حياتهِ ووجودهِ في بيئة طاردة تعمل على الضد منه وتستلب إنسانيته وتصادر شعوره بالأمان والإطمئنان.

فالعرض المسرحي الذي قدَّمَهُ عبد الأمير الصغير ممثلاً ومخرجاً كان يتحرك بفكرة مركزية واحدة وبيئة مكانية واحدة ضيقة وضاغطة هي أشبه بالخيمة في واحد من أماكن الحجز والتحقيق في (كامب) الهجرة، حيث يعاني (أيوب) بدلالة الاسم بموورثه الديني ورمزيته المتداولة والمعروفة في الصبر على المعاناة وتحمل المشاق.. من غياب ذاكرته واضطرابها وتصيبه نوبات الهذيان فيتذكر جزءاً من حياته لكنه سرعان ما يقفز الى جانب آخر منها، وها هو يواجه سؤال المحققة: مَنْ أنتَ؟ وماذا تريد؟ 

ويجيبها: أنا نفسي أريد أن أعرف مَنْ أنا؟.


بقايا حلم إنسان

 إنه محاصر في هذا الحيز المكاني الضيق المحدود يواجه الأسئلة الوجودية الصعبة ويتعذر عليه الإجابة عنها فقد حطمتْهُ الرحلة الطويلة الشاقة وتركتْهُ مجرد بقايا وحطام لحلم إنسان مهزوم. ولم يبقَ له سوى الحنين إلى حضن أُمّه التي زرعتْ في مخيلتهِ بطولة (السندباد) وهي تحكي له الحكايات الشعبية قبل أن ينام، ورسمتْ في مخيلتهِ صورة ذلك السندباد الذي لا يعرف الحدود والجوازات والمطارات. 

وتحت ضغط فكرة الخلاص من جحيم حياتهِ ومأزقهِ الوجودي في وطنه الذي ضيّق عليه الخناق لم يكنْ أمامَهُ سوى فكرة الهجرة والخلاص من عذاب (المواطنة) العراقية المحاصرة بالعذاب والحرمان وتاريخ طويل من الحروب والحصار الذي انتهى بالاحتلال الأميركي وما سبَّبَهُ من إحباط وإنكسار نفسي. وفي تقنية كتابة النص المسرحي للكاتب الراحل فقد اعتمد أسلوب المذكرات المكتوبة مقترنةً أو متوازيةً مع التداعي الحر للشخصية والذي يصل إلى حالة هذيان الذاكرة لهذا المهاجر العراقي المريض ومأزقه في ترك بصمته الشخصية في أكثر من دولة طلباً للجوء الإنساني وبسبب هذه التعددية في بصماته فقد أصبح طلبه مرفوضاً حسب قوانين الهجرة المعمول بها، وقد عَمَدَ المؤلف على تقسيم تلك المذكرات إلى محطات حياتية من عمر (أيوب) فمن مرحلة الدراسة الإبتدائية الى مرحلة وسنوات الخدمة العسكرية أثناء الحرب ووقوعه في الأسر لسنوات حتى عُدَّ من المفقودين فيها. وحتى هذه المذكرات الشخصية التي تؤرشف أو تُدوَّن محطات تلك الرحلة قد أصبحتْ أوراقاً متناثرةً على الأرض تماماً مثلما يموت (أيوب) كمداً تحت وطأة مرارة الفشل والخيبة والحسرة ويسقط جثةً هامدةً، وبحركة مسرحية ختامية يتم تغطية تلك الجثة بـ (اليشماغ) العراقي في إشارة للهوية الاجتماعية المعروفة.


سينوغرافيا و "داتا شو" ولكن؟

وقد أسَّسَ المؤلف للاستهلال أو المفتتح المسرحي بالأسلوب الحكواتي الشعبي حيث حكايات ألف ليلة وليلة التي ترويها الأُمّ لابنها، ومن خلال ذلك الأسلوب (الحكائي) نلجُ إلى (حكاية) المسرحية المأساوية وتفاصيلها المفجعة.

جاء العرض المسرحي متقشفاً بمفردات وأدوات السينوغرافيا كافة لـ (بشار طعمة) لكن تم توظيفها بنجاح فرغم بساطتها إلا أنها كانت تتواءم والمكانية المسرحية الواحدة والضغط النفسي لـ (أيوب) مثل استخدام الأضواء الخافتة والأجواء الكابية والملابس الباهتة مع يافطة صغيرة تتوسط المسرح (المنظمة الدولية للهجرة). 

وفي الرسم الحركي المسرحي ولشخصية (أيوب) تحديداً استطاع (.. الصغير) أن يترجم الوضع النفسي المتوتر وحالات القلق وعدم الاستقرار لهذه الشخصية إلى خطوط ومسارات حركية على خشبة المسرح شملتْ مساحة الخشبة كلها وذلك من أجل التعبير عن الجانب السايكولوجي للشخصية ومحاولة هروبها من مأزقها والتخلص من المكان الضاغط عليها مع الابتعاد كلياً عن حالات السكونية أو الثبات أو الهدوء وهو ما انسجم تماماً مع مأزق الشخصية ووضعها الدرامي. إلاّ أن الإخفاق الوحيد وعدم التوظيف الفني الناجح كان قد تمثَّل لنا في  طريقة استخدام تقنية (الداتو شو) لـ (كرار البنداوي) والتي استخدمها المخرج في الجانب الأيمن من المسرح وخاصةً في عرض مقطع الفيديو الأوَّل في مستهل المسرحية، وإجمالاً يمكن القول لمْ تكنْ هذه التقنية المرئية المرافقة والمتزامنة مع ما يتم تجسيده على الخشبة سوى وسائل إيضاح بسيطة ولمْ تكنْ لتضيف إلى مضمون ومحتوى العرض المسرحي، شيئاً مرئياً إضافياً أو درامياً نوعياً، سواء على صعيد توظيف الصورة الفوتوغرافية أو مقاطع الفيديو.

 لقد كان الفنان عبد الأمير الصغير مجتهداً ومبتكراً في إخراجهِ وقيادتهِ لعرضهِ المسرحي، وفي أدائهِ التمثيلي وتنويع هذا الأداء بتجسيد وتشخيص عدة شخصيات ومنها (أيوب) لينتقل منها إلى شخصية (الأب) وشخصية (المُعلِّم) وغيرها. سبق لي وأن شاهدتُ الفنان عبد الأمير الصغير في عدة أعمال تلفزيونية وهو يؤدي شخصيات ثانوية أو مساعدة لكنها لم تكنْ لتفي حقَّهُ من حيث الإمكانية والقدرة الفنية التي أفصح عنها في هذا العرض المسرحي مُمثّلاً ومخرجاً متمكناً من أدواتهِ وأسلوبهِ الفني الذي اقترب كثيراً من الذائقة الشعبيَّة.

ولا بُدَّ من الإشارة إلى الممثلة الشابة الواعدة إسراء ياسين لا سيِّما بعد أن عرفنا من 

مُقدِّم العرض الفنان محمد عمر أنّها تقف لأول مَرَّة على خشبة المسرح، ومن هنا يتوجب الإفادة من هذه الطاقة الفنية الواعدة والأخذ 

بيدها إلى المزيد من التدريب والزج بها في تجارب مسرحية من أجل اكتساب الخبرة والمران.