الإدهاش في الغروب

ثقافة 2023/01/15
...

 سريعة سليم حديد

رواية «واحة الغروب» للأديب المصري بهاء طاهر أخذت قسطاً كبيراً من الاهتمام، وخاصة أنها فازت بالجائزة العالمية العربية للرواية عام 2008 وبين أيدينا الطبعة الحادية عشرة، وهي تحمل في طياتها رحلة الضابط المصري «محمود» مع زوجته الأيرلندية «كاثرين» عبر الصحراء قاصدين واحة «سيوة» بمهمة إدارية وبحث أثري، وقد واجها صعوبات كثيرة بسبب منع سكان «سيوة» كاترين من إجراء عملية البحث الأثري، كما ترغب.

ــ  لنبدأ بتسمية الرواية بــ «واحة الغروب»، فمن البديهي أن يخطر في ذهن المتلقي معنى الغروب بحد ذاته، ولكن المعنى الحقيقي هو أن المصريين كانوا يعتقدون أن الغرب هو أرض الحساب وأرض واحة «سيوة» التي جرت الأحداث فيها تعد بالنسبة لهم أقصى الغرب، وهي آخر محطة تغرب فيها الشمس.

ــ في القسم الأول ينطلق الكاتب بإيضاح العلاقة التي ربطت الضابط «محمود» بـزوجته «كاثرين» هذه المرأة التي تعشق مصر لما فيها من أوابد تاريخية مهمة.

ما يلفت الانتباه في أسلوب الأديب «طاهر» ذلك التنقل الهادئ بين الأحداث وفق عناوين ثابتة،  وتُسرد بلسان الشخصيات إلى جانب حالة التذكر التي تنقل المتلقي من جو الصحراء حيناً وحيناً آخر إلى جو الحرب التي دارت في الإسكندرية بين المصريين والانكليز.

ــ من أبرز سمات الكاتب مقدرته العالية على استعارة عواطف المرأة وأحاسيسها، وصياغتها بلغة أنثوية رائعة، وما لمسناه في أحاديث «كاثرين» خير دليل على ذلك، حيث تنساب اللغة عميقاً في الجمال ساحبة معها الدهشة عاكسة صوراً يشتاق إليها المتلقي، ويبحث عنها في أماكن يتوق لرؤيتها والسير فيها ألا وهي الصحراء، نقتطف من كلام «كاثرين» وهي تتذكَّر المعلومات التي وجدتها في الكتب بخصوص الصحراء:

«لكن الكتب لم تحدثني عن الصحراء الحقيقية. لم أعرف منها كيف تتغير الألوان فوق بحر الرمال عبر ساعات النهار، ولا وجدت فيها كلمة عن تحرك الظلال، وهي ترسم سقفاً رمادياً نحيلاً على قمة تل أصفر، أو تفتح بوابة داكنة في وسطه.. ولم تتحدَّث عن الفجر، وهو يتحوَّل من خيط رقيق أبيض في الأفق إلى شفق أحمر يزيح الظلمة ببطء، إلى أن يتوهَّج الرمل بحراً ذهبياً مع أول شعاع للشمس، وساعتها تنفذ إلى أنفي رائحة لم أعرفها في حياتي أبداً من اختلاط ندى الفجر بالشمس والرمل..».

ــ إذا نظرنا إلى طريقة رسم الكاتب للشخصيات، فإننا نجد شخصية «محمود» جافة صلفة متجهمة غير ودودة، ورغم تقدُّم الأحداث لم تتبدَّل الشخصية بل راحت تزداد غلاظة وجفاء.

ـ أما شخصية «كاثرين» فقد لبست ثوباً بهياً، فبدت جميلة لطيفة مرنة محبَّة للاكتشاف، تتحدَّث بلغة أنثوية شاعرية رقيقة، تتلوَّن بتلون الأحداث وبعواطف متجددة، كما تمتلك نظرة علمية، بسط الكاتب من خلالها معلوماته التي استقاها من تاريخ وجغرافية المكان. 

ــ أما شخصية «مليكة» فقد دخلت الأحداث بلطف، وبدت غريبة بتصرفاتها، وقد أرخى عليها الكاتب ملاءة من حرير، حين راحت تتمرَّد على تقاليد الواحة، وتتبَع «كاثرين» بحثاً عن ملجأ للأمان، وهي المرأة الجميلة المتفرِّدة بمواهبها وحبها للحياة، فكان لزواجها من رجل طاعن في السن أكبر إهانة لها، فقد حطَّم أحلامها، وجعلها كريشة في مهب تقاليد الواحة السيئة التي دفعت ثمنها غالياً.

ــ ما يميِّز أسلوب الكاتب هو طريقة إدخاله الشخصيات الجديدة في الرواية أو حتى طريقة دخولها في الأحداث المتباعدة، وخير شاهد على ذلك «فيونا» أخت «كاثرين» إن تلك الطريقة تشبه إلى حد ما أجواء استحضار الأرواح بما تمتلك من جمال ودهشة.. «فيونا» وصلت الصحراء بعد تمهيدات منتقاة بعناية، فحضرت الشخصية على مسرح الأحداث بكل سلاسة ومتعة، حتى أنها أسهمت في تقدم الأحداث بشكل مدهش.

ــ اللافت ما حدث لــ «مليكة» عندما دخلت بيت «كاثرين» والحالة  المتوحشة التي أبدتها، وطريقة محاولتها كي تفهم  لغتها «كاثرين» فقد أحضرت معها تمثالين صغيرين وراحت تقوم بحركات بهما تدعوها للحب، مما دفع «كاثرين» للصراخ: أنا لست «سافو» وهنا إشارة إلى وصول «مليكة» إلى حالة من الشبق بل السحاق نتيجة العزلة التي فرضتها عليها التقاليد وعدم الخروج من المنزل بما أنها أرملة، كذلك أن تبقى في ثوبها وألا تغيره مهما اتسخ، وألا تتزين أو تختلط بأحد سوى أهل بيتها.. ولكن رغبة «كاثرين» في الحصول على أدنى معلومة عن الآثار لم تستطع أن تكبتها حتى في أصعب المواقف حين تهجمت عليها «مليكة» وقبَّلتها، نقتطف:

«لكن، بعد أن انصرفت «مليكة» قمت أحاول جمع حطام التمثالين اللذين هشمتهما، وأحاول تشكيلهما من جديد من دون جدوى، تفتتا إلى شظايا لا يمكن إصلاحها. لكن، أية أنامل حساسة، نحتت هذا الجذع، ونمنمت هذه اليد وهذه الوجنة؟! أيعقل أن تكون هي نفسها مليكة؟».

ــ واحة الغروب عالم مفعم بالجمال والدهشة ونسيج عرف صانعه كيف يدخل الألوان ويطرز الحواف وينمنم الزخارف طمعاً بفتنة المتلقي وترك بصمة إبداعية قلَّ

مثيلها.