رواية واقعيَّة وساحرة.. على خلفيَّة تاريخيَّة

ثقافة 2023/01/15
...

 كامل عويد العامري

في مستهل رواية «الميراث» يتوجه الكاتب إلى سيلفا، بالقول: أنت الوحيد الذي يعرف ما سيحدث بعد ذلك. ويقتبس من جورج سانتايانا: «أولئك الذين لا يستطيعون أن يتذكروا ماضيهم محكوم عليهم بتكراره».


كان لازار لونسونيه يقرأ وهو في مغطس حمامه عندما وصلت إلى تشيلي أخبار اندلاع الحرب العالمية الأولى. في تلك الأيام، كان غالبًا ما يتصفح الصحف الفرنسية، على بعد 12000 كيلومتر، وهو مرتمس في ماء معطر بقشر الليمون. في وقت لاحق، عندما عاد من الجبهة بنصف رئة، وبعد أن فقد شقيقين في خنادق نهر المارن، ارتبطت رائحة الحمضيات في ذهنه إلى الأبد برائحة القذائف النتنة.

وفقًا لرواية الأسرة، كان والده قد فر من فرنسا ومعه ثلاثون فرنكًا في جيب وسويقة كرمة في الجيب الآخر. ولد في لونس لو سونييه، على سفوح جبال جورا، وكان يمتلك مزرعة عنب تبلغ مساحتها ست هكتارات عندما ضربتها آفة النبيذ، مما أدى إلى ذبول كرومه ودفعته إلى الإفلاس. وفي غضون بضعة أشهر، كان كل ما تبقى من أربعة أجيال من زراعة الكروم هو الجذور الميتة في بساتين التفاح والنباتات البرية التي كان يصنع منها شراب الأفسنتين الكئيب. غادر هذا البلد ذو التربة الطباشيريَّة ومزارع الحبوب والفطر والجوز، ليرحل على متن سفينة حديديّة كانت تغادر لوهافر متجهة إلى كاليفورنيا. ولأنَّ قناة بنما لم تفتح بعد، فقد كان عليه أن يبحر حول جنوب أمريكا، فسافر لمدة أربعين يومًا على متن 

مركب شراعي، فيه مائتا رجل كانوا محشورين في حاويات شحن مليئة بأقفاص الطيور، كانت تثير ضجيجا عاليا لدرجة أنّه لم يكن قادرًا على النوم على امتداد الطريق حتى سواحل باتاغونيا.

في إحدى الأمسيات عندما كان يتجول كالسائر في نومه في ممر بين الأسرّة، رأى في الظل امرأة عجوزاً ذات شفتين صفراوين تغطي الأساور امتداد ذراعيها، وجبينها موشوم بالنجوم، جالسة على كرسي من القش، أومأت إليه بإشارة وطلبت منه الاقتراب.

سألته:

-- ألا تستطيع النوم؟

أخرجت من صدارها حجرًا أخضر صغيرًا، به ثقوب صغيرة متلألئة، لا يزيد حجمه عن حبة عقيق.

قالت له:

بثلاثة فرنكات.

دفع، وأحرقت المرأة العجوز الحجر بصدفة سلحفاة وهي تلوح بها تحت أنفه. تصاعد الدخان على رأسه فجأة لدرجة أنه اعتقد أنه سيغمى عليه. في تلك الليلة نام سبعًا وأربعين ساعة نومًا عميقًا ومستقرا، وهو يحلم بكروم ذهبية مليئة بمخلوقات بحرية. عندما استيقظ تقيأ كل ما في بطنه وشعر بثقل شديد لدرجة أنه لم يستطع النهوض من الفراش. لم يعرف أبدًا ما إذا كانت أبخرة الغجرية العجوز أم الرائحة النتنة التي تنبعث من أقفاص الطيور هي السبب، لكنه أصيب بحالة من حمى الهذيان أثناء العبور من مضيق ماجلان، وهلوسة بين تلك الكاتدرائيات الجليدية، وهو يرى جلده وقد تغطى ببقع رمادية كما لو كان يتحول الى رماد. لم يكن القبطان، الذي تعلم التعرف على العلامات المبكرة للسحر الأسود، بحاجة إلا إلى نظرة خاطفة لتخمين مخاطر وباء يلوح في الأفق.

فأعلن: 

-إنها حمى التيفوئيد. سنتركه في الميناء التالي.

هكذا نزل من السفينة في تشيلي، في فالبارايسو، في خضم حرب المحيط الهادئ، في بلد لم يكن يعرف كيف يحدد مكانه على الخريطة ويجهل لغته تمامًا. ولدى وصوله، انضم إلى الطابور الطويل الذي امتد أمام مستودع صيد الأسماك قبل أن يصل إلى مركز الجمارك. لاحظ أن ضابط الهجرة كان يسأل كل راكب بشكل منهجي سؤالين قبل أن يختم بطاقته. ويخلص إلى أن الأول يجب أن يتعلق بأصله، والثاني، على نحو منطقي، وجهته.

 وعندما جاء دوره سأله الضابط من دون أن يرفع عينيه إليه:

- الاسم؟

لم يفهم شيئًا من الإسبانية، ولكنه مقتنع بأنه خمن السؤال بشكل صحيح، فأجاب من دون تردد:

-  لونس لو سونييه.

لم يعبر وجه الضابط عن أي شيء. وبإشارة منهكة من يده، دون ببطء: لونسونييه.

- تاريخ الميلاد؟

أجاب:

- كاليفورنيا.

هز الضابط كتفيه، وكتب تاريخا، وسلمه بطاقته. منذ تلك اللحظة، أعيدت تسمية هذا الرجل الذي غادر مزارع كروم جورا باسم لونسونييه وولد للمرة الثانية في 21 مايو- آيار، يوم وصوله إلى تشيلي. وخلال القرن الذي تلاه، لم يسلك الطريق إلى الشمال مرة أخرى، وقد أحبطته صحراء أتاكاما بقدر ما احبطته كلمات الأطباء السحرة، مما جعله يقول أحيانًا أثناء النظر إلى تلال كورديليرا:

- دائمًا ما تجعلني تشيلي أفكر بكاليفورنيا.

سرعان ما اعتاد لونسونيه على المواسم المعكوسة، وعلى قيلولة منتصف النهار وعلى هذا الاسم الجديد، وعلى الرغم من كل شيء، لا يزال يبدو أنه يحتفظ برنين الأصوات الفرنسية. لقد تعلم كيف يشعر بوقوع الزلازل ولم يتأخر في أن يشكر الله على كل شيء، حتى على سوء الحظ. في غضون بضعة أشهر، كان يتحدث كما لو كان قد ولد في المنطقة، وهو يدحرج حرف الـ»r” مثل الحجارة في النهر، ومع ذلك تعرض للخيانة بلهجة طفيفة. نظرًا لأنه تعلم قراءة الأبراج وقياس المسافات الفلكية، فقد تمكن من فك رموز الكتابة الجنوبية الجديدة، حيث كان جبر النجوم عابرًا، وفهم أنه استقر في عالم آخر، مصنوع من جنس حيوانات البُوْمَاء وجنس نباتات الأراوكاريا، أول عالم يسكنه عمالقة الحجر والصفصاف وصقور الكوندور

تروي رواية الميراث الرائعة لميغيل بونفوا.  قصة عائلة لونسونييه على مدى أكثر من قرن، التي وصلت إلى تشيلي في نهاية القرن التاسع عشر، والتي ستواجه أجيالها المختلفة رعب العالم.

إنّها قصة نفي، كيف يمكن أن تكون مختلفة مع ميغيل بونيفوا؟ هذه المرة نحن في فجر القرن العشرين، عندما دمر وباء الفيلوكسيرا كروم العنب الفرنسيّة وألقى بآلاف الأسر في براثن الفقر. 

فيقرر رب الأسرة لونسونييه المغادرة إلى كاليفورنيا حيث يقع وادي نابا الذي يشكل إلدورادو. ومعه غرسة عنب في جيب وبضعة فرنكات في الجيب الآخر لكنّه لن يصل إلى وجهته أبدًا. يتوقف في فالبارايسو، ولأنّه يصاب بالحمى سيبقى في تشيلي. ويستقر هناك في نهاية القرن التاسع عشر، قرار حكيم في ضوء الثروة التي لم يضع وقتًا في جمعها: «وهو الذي يسلك الطريق نحو المجهول، وهو الذي كان مزارعًا متواضعًا، وفلاحًا فقيرًا، وجد نفسه فجأة على رأس العديد من العقارات وأصبح رجل أعمال بارع. لا شيء، لا الحروب، ولا الانتفاضات ولا الديكتاتوريات، يمكن أن تعكر ازدهاره الجديد، لدرجة أنه عندما احتفل بسنته الأولى في سانتياغو، بارك لونسونييه اليوم الذي أحرقت فيه غجرية على متن السفينة الحديدية التي أقلته، حجرًا أخضر تحت أنفه.

يتزوج من دلفين موريست، وهي امرأة ذات شعر أحمر، من أسرة عريقة من بوردو، تتاجر بالمظلات. سيكون للزوجين ثلاثة أبناء، شارل وروبير ولازار، تلقوا تعليمهم على الطريقة الفرنسيّة. البلد الذي يحبونه من دون أن يعرفوه فيتطوعون من أجله عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى. ومثل العديد من رفاقهم، سيموتون في هذا الجحيم. لن يتمكن سوى لازار من البقاء والعودة إلى تشيلي، مصابا بجروح خطيرة، ولكنه سيكون قادرًا على إدامة نسل الأسرة بزواجه من تيريز الشغوفة بالطيور، بدءًا من الطيور الجارحة. التي ستبني في حديقتهما أجمل الأكواخ في جبال الأنديز في أرضهما وستلد ابنتهم مارغو. التي ستشارك في الحرب العالمية الثانية وسيتعرض ابنها للتعذيب على يد ديكتاتورية بينوشيه.

تروي هذه الرواية قصة أربع أجيال من خلال مصائرها المتقاطعة في الماضي وفي المستقبل، على كل جانب من جوانب المحيط الأطلسي، وهي تذكّر بمصير أسرة المؤلف، الذي كان والده التشيلي هو نفسه. مسجونًا، قبل أن يلجأ إلى باريس على أرض أسلافه في بونفوا. يأخذنا ميغيل بونفوا إلى هذه القصة الأسريَّة بشغف رواة القصص الموهوبين، الذين يتقنون قصتهم من البداية إلى النهاية. يبدو الأمر أحيانًا وكأنها حكاية ألف ليلة وليلة، لدرجة أن كتاباته تغرقنا في كلمات تستحضر حكايات الطفولة، وتتأرجح بين الحكاية والسرد

التاريخي. في النهاية، إن قراءة (الميراث) كقصة جميلة مليئة بالشخصيات الشعرية، التي مع ذلك تخوض حربين عالميتين واحداثا غير إنسانية، من دون أن تفقد جمال السرد الذي يتجاوز الأحداث. إن مأساة الوجود ليست سوى خدعة سيئة يلعبها القدر، ونحن نبحر في التخيلات الغنية جدًا لشخصياته، وخاصة النساء، اللواتي يأخذننا في مغامراتهن بقوتهن وجرأتهن ونعمتهن. كل ذلك على خلفية الواقعية السحرية الموروثة من أدب أمريكا الجنوبية.

في “الميراث”، يرسم ميغيل بونفوا صورة أسرة لونسونييه. متاهة لا يضيع فيها القارئ أبدًا. الكاتب حكواتي وشاعر رائع، فرنسي لكنه أمريكي جنوبي في طريقته في الكتابة. روايته لوحة جدارية أسرية رائعة خلال القرن التاسع عشر بين تشيلي وفرنسا. تروي الذكريات بطريقة غنائية، مشوبة بالواقعية السحرية، قصة أسرة متداخلة بين ثقافتين ولغتين وضحية حربين عالميتين. وتغوص في المكان والزمان على نطاق واسع. إنها رواية حكواتي يصقل إحساسًا استثنائيًا بالتفاصيل جنبًا إلى جنب مع فن الانتقال المفاجئ بالقدر نفسه من

الدقة.