ابراهيم العبادي
يشتد الجدل بين تيارين داخل جماعة الاخوان المسلمين المصريين بشأن طباعة تفسير سيد قطب الشهير (في ظلال القرآن)، فقد أقدم باحث على متابعة كتابة التفسير زمنيا والذي امتد على سنوات، حيث أضيفت اليه الأفكار المستجدة لدى سيد قطب في مرحلة الصدام مع نظام جمال عبدالناصر (1918 - 1970) منذ حادثة المنشية عام 1954، والسنوات التي تلتها والتي انتهت باعدام قطب عام 1966.
إن قيام (اخوان لندن) بتشجيع نشر الطبعة الجديدة التي لا تحوي أفكار قطب التي جنح فيها إلى (المفاصلة الجذرية) التي ضمنها كتابه (معالم في الطريق ).
بما فيها من اعتزال للمجتمع (الجاهلي) والتحريض على قتال (السلطات الجاهلة)، تشكل محاولة للتراجع عن نهج اعتُبر متطرفا ومشجعا على ولادة حركات التكفير، التي تناسلت وانتهت أخيرا بحركات الارهاب المتوحش، كالتي تمثلها القاعدة وداعش والشباب الصومالي وبيت المقدس واخواتها الكثيرات.
العبرة في هذا الحدث، إن الجدل بين تياري الاخوان أو ما يعبر عنه، بين منصة لندن المعتدلة وبين منصة اسطنبول المتشددة، هو ما يكسب الموضوع أهميته الكبيرة، تيار لندن يرسل رسائل ويقدم مؤشرات على أن الاخوان يجرون مراجعة فكرية وسياسية، وانهم لا يريدون المضي بالطريق الذي رسمته افكار سيد قطب السجين، وليس سيد قطب الأديب الرقيق الشفاف، في الاولى قضى الاخوان نصف قرن بين صراع وقتال وجهاد ومعارك استنزاف وسجون وتشرد ومحاكم، والثانية فيها اشارة إلى أن الطريق إلى الاسلمة أو الحكم الاسلامي، لا يقتضي بالضرورة امتطاء أفكار سيد قطب المتأخرة المأزومة بظرفها الصدامي، والتي انحصر فيها الصراط المستقيم وصار المشي فيها انتحارا، والحياة منازلة صفرية كبرى تحاكي سنوات الدعوة الاسلامية في مكة المكرمة.
الزمن كفيل بتليين الافكار والتصورات والمبادئ التي تبدو للوهلة الأولى أنها خطوط حمر وفيصل بين الإسلام والزندقة.
للظروف أحكامها وللأزمنة اشتراطاتها، والتمسك بنمط فكري ومنهج سياسي صراطي لا يعكس مبدئيَّة وصرامة إخلاقية والتزاما حرفيا، بل هو في حقيقته جمود وانفصال عن فهم الواقع ومعادلاته ومشكلاته وتعقيداته، لا يخسر الانسان دينه ومبادئه والتزامه الاخلاقي، اذا ما وائم بين الاساليب والاهداف وخبر فقه الاولويات والنوازل والاضطرارات، ولجأ إلى خيارات متجددة، وأعاد مراجعة الأفكار والمواقف والاساليب، واستفاد من العطاء الفكري والعلمي والمعرفي على سعته وتواتره.
الأخوان المسلمون اذن في بداية مراجعة، أنها بالتاكيد طريق طويلة ستأتي بفكر معتدل ورجال قادرين على التعامل مع واقعهم المتغير، وهذه أول علامات مغادرة الفكر الاحادي وما أنتجه من بلاءات وكوارث!.
ليس الإخوان وحدهم من يراجع مسيرته، هناك تجارب صغيرة تنمو، في السعودية مثلا تجري الجماعات الاسلامية المتشددة، السنية والشيعية مراجعات هادئة، ينتظر أن تسفر عن رؤى ومسلكيات جديدة ومصالحات بين المجتمع والسلطات، وبين الأفراد ورؤيتهم لتاريخهم وحاضرهم، والأفكار التي اعتنقوها وجعلوها نهاية العالم ومن دونها الضلال!.
تنتج أفكار المراجعة استبصارات بالايديولوجيات والظروف التي انتجتها، والشعارات التي جسدتها والأهداف التي رسمتها، لا تنتهي المراجعات بالتراجع عن الحق والمبادئ، انما رؤية متجددة للحق والمبادئ، لا تحتكرها رمزيات عاشت عصرها، ولم يمتد نظرها إلى ما هو أبعد منها، أو نظريات وليدة ظروفها، كانت ترى المصلحة والحق من زاوية نظرها المحدودة.
المراجعة تحتاج إلى شجاعة واعتراف ورؤية واسعة، واٍحاطة بالتجارب وقراءة للتاريخ وخيال مستقبلي واخلاص وتجرد، المراجعة لا تقتصر على المسلمين أو الاسلاميين وحدهم، بل إن البشر جميعهم محتاجون إلى المراجعة، الاخطاء والوقائع تفرض نفسها على العقول الحصيفة، تخيلوا لو أن الحزب الشيوعي الصيني بقيادة الاصلاحي الجريء دنغ شياو بنغ لم يجر تعديلا على نظريته الاقتصادية (الماركسية - الماوية ) عام 1979، هل كانت الصين قادرة على الانتقال من بلد نام فيه 200 مليون فقير إلى بلد ينافس على قمة العالم في الاقتصاد والمال والتكنولوجيا وتنمو هذا النمو المدهش خلال 40 عاما؟.
لو ان فيتنام لم تنتبه لحالها وفقرها وازماتها في عام 1986، ولم تتخذ قرارا جريئا بالتصالح مع من دمرها وحاربها 10 أعوام بقنابل النابالم التي أحرقت الزرع والضرع والبشر، كيف لنا ان نتخيل حالها؟ كان قرارا محسوبا بعناية، فيه تعال على الجراح و الاحقاد والثأريات والعواطف، قرار جعل شيوعيي فيتنام الذين يعدلون بالفقر ويرتعون بالتخلف والعسر يرتقون ببلادهم إلى نمر اسيوي مزدهر، تصنع كل شيء، وتنافس الصين والهند على اجتذاب رؤوس الاموال الأميركية والغربية.
كان وراء ذلك قرار، قرار جاء بعد مراجعة جريئة، انتصر فيه فكر الحياة والمستقبل على فكر التزمت والتشدد و(عدالة!) الفقر والطوباوية.
يتغير العالم من حولنا، تنتكس تجارب وتندثر مواقف وسياسات، وتبزغ افكار وتجارب جديدة، ويتعلم الاذكياء من التجارب الثرية، بينما يلهث اخرون وراء تجارب آفلة أو في طريقها إلى الافول، اين نحن من كل ذلك؟
فهل نقرأ العالم بعيون مفتوحة ام بأذان صماء؟.