غربة الإنسان وملامسة جوهر روحه في {جنيات إنشيرين}

ثقافة 2023/01/16
...

علي حمود الحسن
كما هو متوقع، فاز فيلم "جنيات إنشيرين"(2023) للمخرج الأيرلندي مارتن كادونا، الأسبوع الماضي بثلاث جوائز في الغولدن غلوب الـ(80).

 الفيلم الذي كتب قصته ماكدونا ومثل فيه كولين فاريل، و براندان غليسون، ودار تصويره بن ديفس، بينما وضع موسيقاه التصويريَّة كارتر بورويل، يلامس الجوهر الإنساني، فهو يتناول غربة الإنسان، وملله من رتابة يومياته في جزيرة "انشيرين" الساحرة المقابلة للساحل الايرلندي، حيث يتقاتل الإخوة في الحرب الأهلية الايرلندية، التي لا شيء يشير لها، سوى دوي أصوات المدافع و"صليات" البنادق، التي تأتي من بعيد، لكنها ألقت بظلالها على أهالي هذه الجزيرة الهادئة، التي تعيش يوميات رتيبة لا يكسر إيقاعها، سوى زيارة قس الكنيسة القادم من المدينة، لإقامة الصلاة التي ينتظرها أهالي الجزيرة كحدث استثنائي. 

يحكي الفيلم قصة الصديقين كولم (براندان غليسون) وبادريك (كولين فاريل) اللذين لا يفترقان، وإن اختلفت شخصياتهما، فبادريك شاب ساذج وطيب يعيش مع أخته ويهيم حباً بحيواناته، خصوصا حماره الصغير" جيني"، الذي يعامله كصديق، بينما يتميز كولم الذي يعيش خريف عمره بالحضور القوي والجسد الضخم، ويحلم بتأليف عمل موسيقي يخلّده، بدلا من وجوده العابر في عالمنا الفاني، في لحظة قلق وجودي يقرر كولم قطع علاقته بشكل نهائي بصديقه الطيب، بلا مبرر سوى أنه ممل ويشغله عن عمله الخالد، ولم يكتف بذلك، إنما هدده بقطع أصابعه، التي يعزف بها، اذ استمر بمحادثته، وفعلا يقطعها ويرميها أمام بيته، يلتقط الحمار جيني أحد الأصابع ويأكله، فيموت مسوما، يغضب بادريك ويحرق بيت كولم، الذي ينجو بإعجوبة، ثم يلتقيان في اليوم التالي على الشاطئ، يقول له كولن: "أعتقد أننا متعادلان، حرقت بيتي وقتلت حمارك" فيجيبه بادريك " لا ".. لتبقى النهاية مفتوحة. 

اعتمد ماكدونا - الذي هو أصلا كاتب ومخرج مسرحي مجدد- على سرد خطي في بناء احداث قصته، من خلال ثنائيات سردية متناقضة في ما بينها وبين ذواتها، فكولم الموسيقي المثقف يرتبط بادريك القروي البسيط والطيب، الذي يسعد بالحديث عن غائط حيواناته لساعات، علاقة تمتزج فيها الابوة والصداقة، وربما رغبة إيروسية خفية.

 بادريك هو الآخر قاسم مشترك لكل هذه الثنائيات التي تشكل بنية السرد، فهو يرتبط بأخته شيوبان (كيري كوندون) القوية، التي تواجه عزلتها الوجودية بالقراءة، وتختار الهروب من الجزيرة إلى عالم أرحب على ما في هذا القرار من قسوة، ثنائية أخرى كشف فيها المخرج عن محنة الإنسان وخواء روحه، من خلال صداقة بادريك بالفتى "المهبول" دومينيك (باري كيوجان) المنبوذ والخائف دوما من تسلط وعنف أبيه الشرطي سيئ السمعة، اذ يجد في بادريك حنوا وتفهما، لكنه يموت بحادث غرق غامض، هذه الثانيات أطّرها المخرج بأسلوبه الأقرب إلى الكوميديا السوداء، فبدت مأزومة مستسلمة لقدرها.. ربما هي نتاج ظلال الحروب وتوحشها.