ثانيةً: الرؤية وبعدها الكلام

ثقافة 2023/01/16
...

 ياسين طه حافظ

أفكار



راسلني أصدقاء عن مقالتي الرؤية وبعدها الكلام، التي نشرت في زاويتي الأسبوعيَّة في الصباح. خلاصة الملاحظات أن نزوعاً فلسفيّاً ساد الكتابة. معهم. ولكن ليس للكتابة، في شأن مثل هذا غير أن تتخذ مثل هذا المسار. أو أني لم أجد طريقاً أخرى أسلكها. على العكس أنا أتهم نفسي بتبسيط الأمور. إن وراء رؤيتنا لما نشهد ولما يشهد الآخرون منا كل ما نواجهه من رضا أو سوء فهم. أعترف أن هذا منتهى التبسيط للأمور، ولكنها الصحافة والكتابة للناس وعموم الناس يريدون ما هو قريب ومفهوم.

كان ايجازا وتبسيطا، فلتكن لنا كلمة ثانية في الموضوع بنظر أبعد مدى وأوسع مما كان. ولا بأس فالفلسفة ليست عيباً. 

أقول نحن نعيش في عالم لا نفهمه تماماً. ندعي فهمه من الجزئيات التي فهمناها أو نراها، وكل ما نملك هو أفكارنا وهي قاصرة أمام الكون. وغرائزنا وهي «تلبية» أو رد فعل. أيضا كل حاسة من حواسنا غير قادرة على الاحالة الكاملة. نحن نعيش ضمن مجهولات كثيرة ولا علم يتمكن منها. فلا العين ترى كل شيء ولا الاذن تسمع كل شيء ولا اليد تلمس أو تحس بكل شيء. العالم أكبر منا وأكثر بعداً وكل ما نقوله أو ندعي معرفته يعتمد على الرؤية، الرؤية وبعدها الكلام،  وهو عنوان كلمتي.

كتب يوماً الاستاذ سمير وهبي مقالة عن العالم البيولوجي والمفكر بيير الكونت 

«دي نوي»، صاحب كتاب مصير إنسان وكتاب الزمن والحياة وكتاب الإنسان أمام العلم وكتاب الكرامة الإنسانية. فيما قاله دي كونت، هذا العالم الفيلسوف: بأن العلم غير معصوم. ولهذا لا يجب الثقة به دائماً. لأنه ليس في هذا الكون ما يمكن أن نعرفه معرفة كاملة. 

وإن حواسنا من جهة يشوبها النقص ومن جهة أخرى لم تبلغ، ولن تبلغ أدواتنا الأخرى، مبلغ الكمال في دقتها. فليس في طاقة البشر أن يعرفوا الحقيقة المطلقة. ويضرب لنا مثلاً: إن مسحوقَ دقيق «طحين» وقليل من ذرات الدخان أو الكاربون إذا سارت على خليطهما حشرة صغيرة ترى حبيبات الخليط بحجم الصخور الضخمة بعضها بيضاء والاخرى سوداء.. هي رؤية حشرة وتقدير حشرة. فلا مسحوق رمادي كالذي نحن نراه. 

حين كتبت: «الرؤية وبعدها الكلام» عرضت ما يخص متاعبنا الشخصية مما يراه الناس، ومن ثمَّ يقولون به، ثناءً لمحاسن أو قدحاً لعيوب والرؤية غالباً ليست دقيقة ونحن قد نواجه ظلماً لحقيقتنا كما قد نخدع الآخرين أو تخدعهم رؤيتهم لنا، لأقوالنا، لسلوكنا، لمواقفنا ولأقوالنا ولما يترتب على ذلك.

هذا يعني أن استخلاص النتائج أو تحديد المواقف من الغير، من الطبيعة، من الاحداث ليس دائماً صحيحاً. ليس صحيحاً لسبب أكيد هو أن أجهزة الرؤية لنا، بصراً أو بصيرة، أو حواس أخرى، هي نسبية بالنسبة للافراد وثانياً هي قاصرة بالنسبة للعالم أو الكون.

وهذا يفسر خطأ الاحتمالات وعدم الانتباه أو سوء التقدير لا على نطاق الأفراد ولكن أيضا على نطاق تجارب الشعوب. وأحداث عديدة حصلت بسبب خطأ ما رأوا. خطأ الرؤية يؤدي، وقد أدى فعلاً، الى وقائع ضخمة وأحداث كبيرة. سببها الرؤية الخطأ للدولة أو الحاكم فشهد العالم مجازر وحروبا وأبطالا سقطوا بسبب رؤيتهم الخطأ. 

وهذا تماما ما نخشاه اليوم على عالمنا من رؤية الدكتاتوريين، أعني قصور النظر أو خطأ الرؤية الذي يؤدي الى خطأ الفهم وخطأ الفهم الى الإجراء الخطأ، ثم النتائج الخطأ، والبشرية عبر التاريخ تدفع الثمن.

فاتنا أن الإنسان مسيطر عليه من نفسه أيضاً. أعني من الشهوات والغرائز وتوالد الأفكار، مسيطر عليه ذاتياً بسبب الذكريات أو خزين الذاكرة وبسبب مستجدات المطامح ونوازع التملك أو الرغبة في التسلّط أو الايذاء وهذه تحدد ما يعقب الرؤية في حال وتحددها الرؤية في حال أخرى. نحن إذاً، لسنا أحراراً كاملي الحرية في نوع الرؤية ومن ثمَّ يختلف ما يعقب رؤيتنا. كلٌّ مسكون بمؤثرات، بعوامل تحدد ردود الفعل. لا إنسان حر. لم يأتِ إنسان خلواً مما ورث ومما اضافت ظروف العيش. لا سيما تلك المُطمئِنة أو المُهدِّدة التي تتحكم بمستقبله. 

تحدثت في المقالة الأولى عن علاقاتنا الاجتماعية وما نتلقى أو نُلقي، ظناً أن ذلك يكفي وسيوحي بالأبعاد الأخرى للكلام.

أوصلنا هذا إلى أننا يمكن أن نجد إنساناً تحرر أكثر من سواه. وأن موروثه أو ما يشينه قلَّ كثيراً، أو أنه صفا مما يعكر النظر أو الرؤية للناس والأشياء. 

ولقد عرفت الجماعاتُ مثل هذه الشخوص. عرف الناس حكماء، عقلاء، طيبي القلب إنسانيين رؤيتهم أفضل وأصفى. وهؤلاء هم الأخيار ومنهم الأولياء وأصحاب الحكمة وقبلهم وأسمى منهم الأنبياء. النوازع عندهم أقل وسلامة الرؤية أكثر. 

ولعل هذا نوع عالي الامتياز للتطور البشري. كانت الغرائز وشهوة الافتراس والانتقام هي المتحكمة في النماذج الأولى أما في النماذج التي ذكرناها، فقد اتضح التهذيب أكثر وصار الانسان أكثر نظافة وأنقى. هو بايجاز أكثر إنسانيّة. وهذا ما نتمنى وما يعمل الخيرون من أجل تأكيده والسعي ليكون التأمل والبصيرة الفاضلة والمزيد من المحبة ضرورات عيش مدني جديدة، والخجل من الكراهات العمياء وسوء النظر أو سوء الظن. 

أما كيف ابتدأت هذه اليقظة الانسانيّة، فهو التطور، وهو التقدم الذي شمل كل شيء، الانسان وسكنه وثقافته وأطباق

طعامه. 

ولكي تهنأ البشريّة أبعدتْ بالتدريج الكثير من بقايا التوحش القديم والهمجيّة، وأيضاً انتبهت لأمراض وعيوب العصر. فنرى اليوم من يطالب بحماية البيئة والدفاع عن الحيوان وثمة منظمات في العالم عديدة تقف ضد الظلم أو المساس بجسد الانسان او بكرامته. عصرنا عظيم، وأن قللت من عظمته بقايا إرث سيء.