إشكاليَّة المصطلح النقدي بين التأصيل والاختلال

ثقافة 2023/01/16
...

 د. سمير الخليل

يمثل المصطلح وسيلة فاعلة من وسائل الانتاج المعرفي وقيمة تداوليَّة على مستوى استنطاق القيم والمعاني والمضامين، فضلا عن كونه آليَّة إجرائيَّة لفحص الأثر الإبداعي وتأسيس منظومة من المفاهيم التي تمثل المعاني الكليّة وصولا إلى استراتيجية نقدية وابستمولوجية تمثل الأساس أو المرجعية التي لا يمكن لأي خطاب نقدي أو فلسفي إلا يتمثلها والاستعانة بمعطياتها.

 فاستثمار المصطلح واستخدامه يمثل طريقة لاختزال كثير من الخطوات وتجاوز التعريفات والشروحات الفائضة فهو يغني عن النزعة المدرسيّة والتوصيف الاستطرادي حيث يعبر عن أفكار كثيرة ومفاهيم وفيوضات عن طريق الاختزال وبطريقة تقترب من توظيف الإشارة الدالة أو الشفرة المنتجة وبغياب المنظومة الاصطلاحيّة والإشاريّة الدالّة يصبح الخوف في أية إشكاليّة مشروعاً لسرديّة وتداول البديهات والأفكار البسيطة والسطحيّة بسبب أن المصطلح مدلول منتج للفكرة وليس فقط وسيلة للفحص والتأشير والانتاج الذهني، وكم هي فداحة أية دراسة أو مشروع معرفي لم يبلور مصطلحاته بوصفها المساحة التي تفكّ الاشتباك وتستطيع الوصول إلى أفكار ذات طابع تحليلي عميق ودال، وكذلك يعزز المصطلح النزعة التركيبية أو حالة التمثل لانتاج الكثير من الدلالات والصيرورات وفي كل حقول وميادين المعرفة. 

لا يمكن لأية ظاهرة ابداعيّة أن تستقر وتنتج وتستمر من دون وجود هذه المرجعية العلمية والإجرائية فالمصطلح هو بؤرة للتفحص والاستقصاء ويمثل حالة قصوى من حالات المساءلة القائمة على الوعي الذهني والفلسفي على الرغم من اشتغال المصطلح على التجريد والمنطق الإشاري والرمزي والايحائي لكنّه يبقى أداة من أدوات ابتكار الرؤى من خلال تفكيك الأثر وتحديد أبعاده.

يمثل المصطلح مساحة أو مرجعيّة ابستمولوجيّة يتم الاتفاق على سياقها ومدلولاتها وتأشيراتها فالمصطلح هو مواضعة فكريّة واستدلاليّة وهو مفتاح لفك غموض ومغاليق أي عمل فكري وجمالي، وعلم المصطلحات هو من أقدم العلوم ويشمل كثيراً من الحقول التي تتصل بالتعريف سواء أكان المصطلح لغويّاً أم فلسفيّاً أم سيوسيولوجيّاً وتعد المعاجم والقواميس مساحة تثبيت المنظومة الاصطلاحيّة، ولعل من أهم وظائف الإجراء المصطلحاتي هو البحث في العلاقات والتشابك بين المفاهيم والمنطلقات المؤسسة لأي خطاب وفي أي حقل معرفي، ونجد أن أي مشروع للاستنطاق أو البحث الاركيولوجي لا تمتلك القيمة الاجرائيّة للمصطلح سيقع في التشتت وغياب المعنى وانحسار الاضاءة الموضوعية المنتجة. وأنه سيكون مجرد استعراض لغوي وانشائي لا يمت إلى لغة الاختزال والتوليد والخلق الذهني. 

فاللغة الاصطلاحية هي اللغة التي من خلالها يتم انتاج واستقصاء البنية المعرفية واكتشاف الرؤى والمحددات ومساحات الارتكاز لتوالد الذهنية المنظمة والمرتكزة على المساءلة في نطاق الوعي المتقدم وليس النظر العابر والسطحي، وأية لغة تخلو من لغة الاصطلاح هي لغة بدائية تعتمد البساطة ووسائل التفكير البدائي فوجود المصطلح يقفز بالطاقة التفكيرية من السكون إلى الجدل في البساطة إلى التعقيد المنتج ومن التحليل إلى التركيب ومن البديهات إلى القيم المبتكرة ومن التعريفات والشروح إلى المفاهيم ومن التشتت إلى الاختزال ومن الأجوبة الجاهزة إلى منطق السؤال اللفظي إلى اركيولوجيا البحث والكشف والاستدلال الذهني. وعلى الرغم من استفاضة هذا الاستهلال التقديمي غير أنه سعي يقترب من الضرورة المنطقية لكي تدرك أبعاد الاشكالية والاختزال في حالة غياب المصطلح أو تحوله إلى فضاء من الاضطراب والفوضى والعدميّة واللا تناسق يبرز السعي المهم لإيجاد منظومة اصطلاحية متماسكة وراسخة وهي تعتمد التأصيل وثبات القيم (المؤسسة) ونضج الرؤى وحضور المنطق الإجرائي ووسائل التماس مع الظواهر والآثار والنصوص. فعدم وجود التأصيل الاصطلاحي يؤدي – وفق هذا الفهم – إلى اختلال على مستوى الاستبصار والنوارس والاجرائية النقدية، وهذا ما نجد جانباً كبيراً منه في الواقع الأدبي والنقدي والمعرفي عموماً وما يتعلق تحديداً بالظواهر السلبية ومساحات الاختلال في التوظيف الاصطلاحي أو في الظاهرة الاصطلاحية التي باتت تعاني من مظاهر السلب وتعرض المصطلحات ودلالتها إلى الاختلال والفوضى وعبثية الاستخدام والغموض واللا دلالة واشتباك المفاهيم وتداخلها والترادف السائب وتشابه المصطلحات وخلط معانيها وكل ذلك يضعف من الاجرائيّة العلميّة المنتجة والمترشّحة من جراء الاستخدام والتوظيف الأمثل للغة الاصطلاحيّة، ففي حال الاختلال وغياب التأصيل تتحول اللغة الاصطلاحيّة إلى مجرد توصيفات تسهم في اختلال الرؤية ولا تؤدي إلى الاستقراء المنتج والاحتكام المعرفي الرصين والموضوعي ويصبح التوظيف انشائياً أكثر منه علمياً وتحليلياً ويصبح استخدام المصطلح مجرد تعمية واستعراض أجوف لا يؤدي إلى انتاج الفكر والرؤى واضاءة الزوايا التي تحتاج إلى التنوير والاكتشاف. 

ويمكن القول إنَّ غياب المنطق الدلالي للغة الاصطلاحية يسهم في غياب المنطق العلمي والابستمولوجي لتحليل أية ظاهرة أو للكتابة والبحث في أي حقل إبداعي، وفي كل العلوم والفنون والآداب. والعملية النقدية التي تفتقر إلى دقة واستقامة وعمق اللغة الاصطلاحية فإنّها تتحول إلى مجرد سياحة جوفاء في عالم مغلق. وتصبح رحلة استيهامية في مساحة معتمة فالمصطلح الحقيقي والعلمي هو بمثابة (مصباح ديوجين) لالتقاط بؤر التنوير والكشف والاستدلال. إنّ أي منطق يخلو من المدلول الإجرائي للمصطلح يتحول إلى منطق تغيري يشتغل على الجانب التوصيفي للغة ولا يرتكز على الجانب التحليلي والاستقرائي والمساءلة الذهنية المركبة. وما يشبه الواقع الثقافي في كل ميادين الابداع هو حالة من التضخم والعماء الذهني والفوضى الدلالية سواء في انتاج اللغة الاصطلاحية أم في طرائق التوظيف والاستخدام، وكثير من الدارسين لا يجيدون طريقة الاستخدام لوجود نزعة استهلاكية في إقحام المصطلح وتراكمه في النصوص للتوهم بأن الإكثار من المصطلحات وبطريقة عشوائية قد تزيد من قوة الكتابة أو توحي بأنها عميقة ودالّة بينما أن الحقيقة في هذا المعنى تكمن في التوظيف الحقيقي والارتهان إلى نوع الترشيد والدقة والتوازن في ايراد المصطلح والافادة منه بطريقة علمية وأن الحاجة إلى هذا التوظيف يعتمد على منطق الضرورة الملجئة وليس على منطق الاقحام والمبالغة وهيمنة روح الاستعراض (المصطلحاتي) التي أدت في حقيقة الأمر إلى شيوع ظاهرة (الهوس بالمصطلحات) وانتشارها والاكثار منها للتعمية والاعتقاد بأنها المظهر الذي يبرهن على العلمية والقوة والرصانة، إنّ الانبهار المعرفي في توظيف المصطلح واستثماره يكمن في الطريقة العلمية والتحليلية على مستوى الاجراء وأن استخدام المصطلح يعتمد على نسق من التوازن تحتمه الرؤية العلمية المتوازنة وليس مجرد التزويق والتمنطق الشكلاني، مما يزيد من ارتباك النسق الفكري ووقوع الكتابة في فخ العدمية والاضطراب وانعدام المعنى. فالنزعة الاستقرائية والتمركز حول المعنى والضرورة الملجئة للتوظيف الاصطلاحي واستثمار طاقته الدلالية والمعرفية والإيحائية هي الوسائل الابستمولوجية المنتجة للسؤال الاصطلاحي. 

ولعل من بين الظواهر السلبية المرتبطة بهوس وفوضى المصطلح ما نجده في تشابه وتداخل وخلط المفاهيم التي تعبّر عنها اللغة الاصطلاحية وكثرة الترادف والتسميات المربكة ولكي تكون على جانب من الموضوعية وايراد الأمثلة ما نجده مثلاً في دلالة مصطلح (السيميائيَّة) فهناك عدة مصطلحات لهذه الدلالة مثل (العلاماتيَّة والاشاريَّة) و (السيمولوجيا) و (السيموطيقا) وغيرها من المصطلحات التي تدل على معنى أو دلالة واحدة وهذه التعددية والتشتت يثير الارتباك والخلط والعدمية ويؤدي إلى نوع من القصور والاستخدام العشوائي وعدم استقرار المصطلح مما يؤدي إلى اضطراب القيم المنتجة لتوظيف المصطلح اساساً وكل ذلك يؤدي بطبيعة الحال الى ضعف الأداء واللا توازن والتداخل والخلط الذهني.