جماليات الزائل في النصوص الوجيزة

ثقافة 2023/01/17
...

 عبد علي حسن

تماهياً مع إيقاع العصر المتسارع، وتجاوزاً لخصائص النص الكلاسيكي الذي تمكن من تثبيت تلك الخصائص كأنماط استجابت للمتحول في البنية الاجتماعية منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، فقد ظهر النص الوجيز على مستوى الشعر والسرد ليكسر ذلك النمط وليقدم بما يعرف بنص ما بعد الكلاسيكية الذي أسهمت في تكوينه وظهوره الفواعل الاجتماعية لما بعد الحداثة.

 فظهرت القصة القصيرة جداً بعدّها إيجاز الإيجاز لخروجها من رحم القصة القصيرة التي تمكنت عبر النماذج التي طرحها ادجار الن بو وانطون تشيكوف وجاك لندن وسواهم من كتاب القصة القصيرة الذين اختزلوا العوالم الروائية عبر تقليص عدد الشخصيات ومركزة المكان الواحد والحدث الواحد مع تحول في زمن الخطاب السردي ارتباطاً بزمن الحكاية، ومن عباءة هذه الاختزالات والايجازات ولدت القصة القصيرة جداً لتختصر جميع أركان القص الى التقاط مشهد لا يمكن تكراره وإعادة انتاجه وفق القواعد التي عرفت بها بنائية القصة القصيرة جدا من تكثيف واختصار ومفارقة وغيرها من الآليات تجعلها ذات قدرة وإمكانية على التقاط اللحظة والمشهدية السردية (الزائلة) التي تحتفظ بمسافة قصيرة جدا من الذاكرة، اي تبتعد عن مراكز الذاكرة البعيدة الأمد والذاكرة القصيرة الأمد على المستوى الفعلي المعيش لتقترب من محاولة تثبيت تلك اللحظة في مكونات الذاكرة قصيرة الأمد للمتلقي، وهنا تكمن جمالية هذا (الزائل) أي في تحوله من هامشية الملاحظة الى مركزية الذاكرة، ولعل القصدية البنائية للقصة القصيرة جدا هو اقتناص اللحظة الواقعية أو المتخيلة لتقديمها كنص وجيز (يمركز) تلك اللحظة، وقطعاً فإنّ ذلك يتطلب مقدرة متخيلة عالية وبالغة الدقة في قول الكثير بكلمات قليلة تسمح بلفت نظر المتلقي الى جمالية المشهد الزائل، أما في الشعر فإنّ ما نشهده من ظهور النص الوامض أو نصوص الهايكو الياباني فإنه وريث لمحاولات متتالية لترشيق النص الشعري الطويل، ويمكن ملاحظة ذلك التطور والتحول في شكل النص وفق صيرورة الحياة على اختلاف الأزمنة والأمكنة منذ الملاحم الشعرية الطويلة وظهور الحاجة إلى تكثيف التجربة التي تستدعي الاشكال القصيرة والمكثفة ذات الاستقلال والاكتفاء الدلالي، وفي الشعر العربي  فقد طرأ على شكل القصيدة العربية الكلاسيكية التي تتبع نظام البيت والبحر الشعري والوزن الموسيقي الواحد في خمسينيات القرن الماضي عبر جهود رواد قصيدة التفعيلة التي اعتمدت نظام التفعيلة من دون محددات البيت، وكذلك اعتماد الوحدة الموضوعية والعضوية القصيدة التي تمكنت من تكثيف التجربة ثم تكثيف الشكل، كما شهدت العقود اللاحقة وخاصة في سبعينيات القرن الماضي ظهور القصيدة اليومية التي تركز تجربتها في جزيئية من الحياة اليومية وتفاعل الشعراء معها الذي أسفر عن ظهور نصوص وجيزة اختزلت مكوّنات التجربة الشعرية تماهياً مع سرعة الفعاليات الجارية في البنية الاجتماعية، وسنقوم في السطور الآتية بتحليل لبعض النصوص الوجيزة من القصة القصيرة جدا والنصوص الشعرية الوجيزة والتي تتحرك في المساحة التي أشرنا إليها آنفاً وهي تصديها للزائل من الفعل والمشهد/ اللحظوي لنكتشف جماليات هذه اللحظات الزائلة التي لا تختزنها الذاكرة البعيدة أو القريبة وبالإمكان عدّها لحظات هاربة ضمن العديد من المشاهدات والتجارب التي يمرّ بها الإنسان في حياته اليوميّة، وسنعمد في ما يأتي من السطور إلى تحليل ثلاثة نماذج من النصوص الشعرية  الوامضة المكتفية الدلالة عبر اقتناصها لمشهد لحظوي يتكرر كثيرا وعدّ مشهدا سريع الزوال لا تحتفظ الذاكرة بتفاصيله.

وجدير بالذكر أن قصيدة الومضة التي تعتمد الصورة الشعرية المتخيلة  تتوافر على ثلاثة نماذج على مستوى بنائيّة تلك الصور، فالأنموذج الأول/ بنائية الرمز والثاني/ بنائية الانزياح والثالث/ بنائية المشهد المرئي، وما يعنينا من هذه النماذج هو الأنموذج الثالث الذي يعتمد الرؤية البصرية للمشاهد اليومية المتكررة والتي يزول أثرها الاستهلاكي منذ النظرة/ المشاهدة الأولى لتكرارها وشيوع مشاهدتها، إلّا أن النص الشعري يُخرجها من مألوفيتها الاستهلاكية الوامض في الذاكرة التي لا تحتفظ بهذه المشاهد لوقت طويل المدى أو قصير المدى لافتة إلى ما يمكن أن يؤول إليه هذا المشهد من معنى مبتكر يكسبه/ المشهد خاصية الثبات أو الركوز في الذاكرة، وبمعنى آخر تحوّل هذا المشهد من الزائل إلى الثابت، وهنا بالضبط تكمن جمالية هذه اللحظات والمشاهد الزائلة، وفي السطور المقبلة سنقوم بتحليل ثلاثة نصوص شعرية وجيزة / وامضة للكشف عن كيفية تعامل هذه النصوص مع ظواهر الواقع الزائلة، ففي نص (غياب) للشاعر وديع سعادة نقرأ : 

(غياب 

ذاك النهار       

تحت سندبانةِ الساحةِ

 ظلَّ فقط مقعدان حجريان فارغين

كانا صامتين

 ينظران إلى بعضهما، 

ويدمعان)

 في النص السالف ترصد الرؤية البصرية مشهدا مألوفاً تمرّ عليه عين الرائح والغادي كل يوم بل وفي كل لحظة، فمقاعد المتنزهات غالباً ما تكون فارغة وهي واحدة من مستلزمات مكونات المتنزهات كمحطة استراحة أو مكان لقاء بين اثنين أو أكثر وهذه هي الوظيفة المرجعية للنص، إلّا أن النصّ في قسمه الثاني الذي يبدأ من جملة (كانا صامتين) يقوم ببناء الوظيفة الشعرية ويتجه صوب أنسنة هذين المقعدين ليخرجهما من وظيفتهما المعهودة كمكان للجلوس الى بناء علاقةٍ حميمية مع الجالسين اللّذين اعتادا الجلوس واللقاء المستمر على هذين المقعدين، وعودة إلى عنوان النص/ غياب، فإنّ عنصري الفراغ والصمت يشيران الى ظهور بنية غياب من كانا يجلسان على المقعدين، ويمتدّ الإحساس بالغياب من قبل المقعدين الى حدّ البكاء/ ويدمعان ليشير النص الى تشكّل بنية الفراق بين الجالسين بدلالة العناصر التي شكّلت بنيات الفراغ والصمت والذهول/ ينظران إلى بعضهما، والبكاء الذي كوّن المفارقة ودهشة النص الذي التقط مشهدا بصرياً استهلاكياً لا تحتفظ به ذاكرة الرائي به لمألوفيته وبمعنى آخر فهو مشهد زائل، إلّا أن النص تمكن من لفت النظر إليه عبر تشكّل العلاقة بين المقعدين والجالسين ليتحول الى ثابت لا يملك المتلقي بُدَّاً من التفاعل معه بعد تخليق المعنى الجواني لهذه العلاقة.

  وفي نص (وداع) نقرأ للشاعر عباس حسين: 

(وداع 

 عندما لوّحتُ لكِ بيدي

لم أقصد الوداع

 كنتُ أمسحُ الدنيا لأراكِ)

ففي النص الآنف الذكر إشارة إلى مشهد بصري مألوف جدا وهو رفع اليد لتوديع الآخر، ويتكرر مرات عديدة أمام الرائي ولا مبرر لأن تحتفظ به الذاكرة بكل مستوياتها، إلّا أن النصّ وعبر المتخيل الشعري نأى بالمشهد الى ما وراء التوديع واكسبه معنىً إضافياً تمكن من نزع المألوفية عنه، ولعلّ الجملة الأخيرة من النص (كنت أمسحُ الدنيا لأراكِ) شكّلت بنية المفارقة التي لفتت نظر المتلقي الى ما وراء المشهد الاستهلاكي ليدخل منطقة الومض الشعري اللافت الى مشهد بصري زائل لا يعلق بالذاكرة الى الثبات في الذاكرة عبر منح لحظة الوداع واليد الملوحة وظيفة أخرى غير منظورة/ جوانية، وهي الاكتفاء برؤية المحبوب من دون المكونات الأخرى للواقع.

  وفي النص الثالث للشاعر كاظم خنجر، الذي لم يحمل عنوانا كما في أغلب نصوصه يلتقط الشاعر مشهدا بصرياً دائم الحدوث وعلى المستوى الذاكراتي فإنّه من المشاهد الزائلة متكررة الرؤية فنقرأ ما يلي:

 (نضعُ الميتَ

 في تابوتٍ من خشب

 لنوهِمَ الأرضَ

 بأننا جئنا لزراعة شجرة) 

 (ديوان/ نزهة بحزام ناسف)

    يومئ النص السالف إلى مشهد مرئي في قسمه الأول/ مرجعي (نضع الميت في تابوت من خشب) وهو مشهد مألوف متكرر في كل مكان وزمان، إذ إن عملية وضع الميت في تابوت خشبي يعرفها القاصي والداني والصغير والكبير، وحالما يكرّسُ النص هذا المشهد البديهي الذي يجد استقراراً في مرجعية المتلقي البصرية التي تكاد تكون يومية لينتقل الى منطقة تربكُ ذائقة ومرجعية المتلقي، ففي القسم الثاني النص شعريّة تعيد موقع رؤية الميت في التابوت الخشبي في ذاكرة المتلقي ليلفت النظر إلى ما وراء تلك الرؤية/ المشهد البصرية، إذ يتعامل النص مع الأرض وفق أنسنة تحيل إلى إمكانية إيهام الأرض بقبول الميت على اعتباره شجرة وهو المكان الطبيعي لعلاقة الأرض بالشجرة، فضلاً عن وجود اشارةٍ خفية لحياة الإنسان بعد الموت وتواصل حضوره بعد موته.

  أخلص من كل ذلك إلى أن النصوص الوجيزة التي تكثّفُ وتختزل التجربة تدخل الى منطقة المظاهر المرئية/ الزائلة لمألوفيتها واستهلاك التعامل والتفاعل معها وعدم توفر إمكانية ترسيخها في ذاكرة المتلقي، لتتحول الى منطقة الثبات في الذاكرة عبر عملية إنتاجها لتومئ إلى ما وراء المستهلك في هذا (الزائل) وفق الانتقال من الوظيفة المرجعية للنص إلى الوظيفة الشعرية، وهنا تتبدّى جمالية هذا (الزائل) ليحتل موقعاً في ذاكرة المتلقي.