الإلــهــامُ

ثقافة 2023/01/17
...

  محمد صابر عبيد

ينطوي مفهوم الإلهام على معنى غامض - وقد يكون في أحيان كثيرة شديد الغموض- على الرغم من أنه كثير التداول بين عموم الناس، وهو حالة يشعر بها ثلة من البشر تدفعهم في لحظة معيّنة إلى تقديم أشياء استثنائيّة غير متوقعة وخارجة عن المألوف والسياق، وربما عالج علم النفس وعلم الاجتماع والعلوم الإنسانيّة الأخرى ذات الشأن هذا المفهوم من زوايا نظر مختلفة، غير أن حلم الوصول إلى رأي حاسم وكامل وشامل لن يكون في المتناول بسهولة لفرط التعقيد والاشتباك الذي ينطوي عليه، فضلا على غيبيّة جزء من تشكيله العابر للمنطق العقليّ والتداول التحليليّ الأقرب إلى الوضوح والإقناع والفهم الصريح.

يأتي الإلهام عن طريق تفجّر طاقة استثنائيّة هائلة لدى المُلهَم في لحظة فريدة يجد فيها أنّه قادرٌ على إنجاز ما لا يمكنه إنجازه في الظروف الاعتياديّة، وبوسعه أن يفهم ذلك بسهولة حين يجد بين يديه ما يؤهّله لإدراكِ أو عملِ أو ابتكارِ قضيةٍ عابرةٍ للمتعارَف عليه، لكنّه لا يدرك مصادر هذه القوّة ولا مرجعيّاتها على النحو القابل للتفسير؛ سوى ما يتركه الإلهام في نفسه من ثقة كبيرة بقدرته على تحقيق ما حقّقه، ففي حالة الإنجاز القائم على الإلهام يرى الشخص المُلهَم فعله على الأرض وقد استوى على أفضل ما يكون، لكنّه غير قادر على وضع تفسير منطقيّ لما حصل بوصفه عملاً فريداً يستحيل تحقّقه في الأحوال الطبيعيّة الاعتياديّة.

يرتبط مفهوم الإلهام بالطبيعة على نحو من الأنحاء ويمكن أن نصطلح على نوعه الأوّل «الإلهام الطبيعيّ المجرّد»، وهو نوع أقرب إلى أن يكون فطريّاً يتوارد إلى ذهن الإنسان ومخياله في لحظة شديدة الغموض ومعقّدة التركيب وصعبة التفسير، يشعر فيها بقوّة خارقة بوسعها أن تفعل الكثير في لحظة تتجّه فيها قوّته نحو أداء معيّن عابر للمألوف، وربّما المعقول أحياناً، فيبتهج بهذا الإنجاز الذي قد يندرج لدى البعض في عِداد الخوارق بوصفه فعلاً متمرّداً على السائد والطبيعيّ، ويبقى في هذه الدائرة لا يتعدّاها إلى ما يمكن أن يحقّق أعلى درجات الفائدة والإبهار والإدهاش على النحو الذي يتجاوز فيه طبقة البداهة والعفويّة والمصادفة.

يتوقّف هذا الإلهام إذن عند حدّ معيّن يكتفي فيه المُلهَم بإحساسه أنّه متميّز واستثنائيّ ومختلف عن الما حول الذي يعيش في خضمّه بدلالة المنجز الإلهاميّ الظاهر والبيّن، بمعنى أنّه لا يتّسم بالدوام والاستمرار وقوّة التداول؛ بل هو لحظويّ يتفجّر في مناسبة غامضة ويزوّد صاحبه بطاقة خلاقة خاطفة، ثمّ سرعان ما يختفي ويزول ولا أحد بوسعه أن يقدّر متى يمكن أن يعود ويوفّر الفرصة لإنجاز استثنائيّ جديد.

ينبغي على من يطاله هذا الإلهام أن يعرف كيف يفيد أقصى فائدة ممكنة من هذا الإلهام بمعطياته ومنجزاته المتنوّعة، لا أن يكتفي بما يعتقده معجزة ويعتمد على الطَرَف الغيبيّ في المعادلة ويقف عند حدود هذه الطبقة فَرِحاً بهذا التميّز، لأنّ هذه الطبقة من نوع الإنجاز الإلهاميّ هي طبقة زائلة لا يمكنها أن تبلغ الإنجاز الأفضل الذي يجب أن يكون في مثل هذا المقام، إذ يمكن تطوير الرؤية الخاصة بالمفهوم والوصول إلى حالة من الفائدة أكبر وأوسع وأعمق كثيراً من البداية الفطريّة المجرّدة.

من هنا يجب التوسّع في مقاربة مفهوم الإلهام كي نتجاوز الحدود الدنيا للإفادة منه، والتوغّل في طبقات مفهوميّة وإجرائيّة مضافة، تتيح لنا إدراك القيمة الجوهريّة التي يمكن استخلاصها منه عن طريق الإلهام القائم على سند أكاديميّ ينقله من طبقة دُنيا إلى طبقة أعلى، بمعنى أنّ فصاحة الإلهام تتّضح وتتّسع وتتعمّق وتكون أكثر تأثيراً وجمالاً وديمومة حين تستند إلى مرجعيّة أكاديميّة بوسعها أن تضع كلّ تفصيل في مكانه الصحيح، إذ لا بدَّ من وعي استثنائيّ يعادل استثنائيّة الفعل أو المنجز الإلهاميّ يمكنه أن يحتوي ذلك ويوفّر له البيئة المناسبة للحصول على أبلغ فائدة، فثّمة فرق شاسع بين رجل مُلهَم فطريّ لا حظّ كبيراً له من الثقافة والوعي والمعرفة والحكمة؛ وآخر يحوز هذه المعطيات كلّها ويعرف كيف يوظّفها لإيصال المنجز الإلهاميّ إلى أعلى درجة ممكنة في إطار الاستثمار المعرفيّ

والجماليّ.

يصف المتصوّفةُ «الإلهامَ» بأنّه ما يُلقى في الروع بطريق فيض من غير استدلال بآية ولا نظر في حجّة، زيادة في وضع الحالة داخل فضاء أكثر غموضاً يناسب الفهم الصوفيّ للأشياء بعيداً عن إمكانيّة وضع حلول منطقيّة للتفسير، غير أنّ الرؤية العلميّة ذات الطابع الأكاديميّ لا تكتفي بالتصوّر الميتافيريقيّ للحالة، وتسعى إلى إيجاد معالم قابلة للنظر يمكنها أن تجيب عن أسئلة معرفيّة تعيد إنتاج الرؤية على نحو مقنع، فالطبيعة بمجمل ما تنطوي عليه من فضاءات ومرجعيّات وإمكانات وتجلّيات وتموّجات وتحوّلات وانقلابات وتناقضات هي واقع حقيقيّ لا سبيل إلى تفاديه، فيها من الوضوح والإبانة والصراحة مثل ما فيها من الخفاء والغموض والتستّر، لأجل أن تكون جديرة باحتواء الإنسان وتقديم ما بوسعها من فائدة وحماية له، ولا يمكن الاقتناع المطلق بما تقدّمه الطبيعة من منجزات بلا أسئلة تنطلق من عقالها في لحظات الوقوع في فخّ الغموض، وعليه فإنّ الاجتهاد في توفير سند أكاديميّ لتحليل ظاهرة الإلهام وتطويرها يعدّ أمراً عالي الأهميّة والخطورة.