الشعر نسيانُ وجود

ثقافة 2023/01/18
...

أحمد عبد الحسين
كتبَ محي الدين بن عربيّ (أفنتِ الشعراءُ كلامَها في الموجودات وهم لا يعلمون).

هذه العبارة كانت في معرض حديث الشيخ الأكبر عن الحبّ. فالحبّ عنده أصل الوجود، إذ لم يُخلَق خلقٌ إلا بالتقاء معرفةٍ وحبّ كما في الحديث القدسيّ «كنتُ كنزاً مخفياً فأحببتُ أن أُعرَف فخلقتُ الخلق لكي أُعرَف». فما أحبّ الله إلا نفسه، ولا توجّه إلا إلى ذاته، وحتى الآيات التي يُفهم منها محبة الله الناس إنما تتوجه فيها المحبة إلى صفاته وأسمائه التي أفاضها عليهم، كمثل «إن الله يحبّ التوابين» وهو التوّاب.

ثم ينتقل ـ كعادته في التأويل ـ إلى الطرف الآخر من الدائرة ليقرّر أن “العالم كله محبّ ومحبوب، وذلك راجع إليه سبحانه، فما أحبّ أحد غير خالقه”. فـ”ما من حركة في الكون إلا وهي حبيّة».

ردم الهوّة وتجسيرها بين الذات والله، عمل يقوم به الشيخ بتلقائية، فليس في الوجود إلاه، وهو عين كلّ موجود، والعالم محض خيال.

الحبّ الأصليّ إذن، حبّ الله نفسه، ومن آثار هذا الحبّ انوجدتْ كلّ صنوف المحبة التي يرى ابن عربيّ انها لا تتعلق إلا بالله، فكل محبّ إنما يريد خالقه وإنْ انشغل بحجابٍ عنه “فما أحب أحد إلا الله، لكنه تعالى احتجب عنه بحبّ زينب وسعاد والدنيا والدرهم والجاه وكلّ محبوب في هذا العالم».

كم يبدو ابن عربيّ هنا مديناً لمقولة الحسين بن علي “ع” الخالدة: “ترددي في الآثار يوجب بعد المزار”، فبالتردد على هذه الآثار ـ الحُجب يستغرق المحبّ وجوده موغلاً في البعد وهو يظنه عين القرب.

الانشغال بالموجود عن الوجود  ـ من قرأ “مدخل إلى الميتافيزيقيا لهيدغر” يعرف أن هناك فصلاً كاملاً يبحث هذه المسألة ـ هو ذاته انشغال بأثر المحبوب عن المحبوب نفسه. 

اللافت أن ابن عربيّ حين أراد أن يعطي مثالاً قوياً لهذا التردد في الأثر والابتعاد عن المؤثر، أو الانشغال بالموجود ونسيان الوجود، لم يجد أفضل من الشعراء مثالاً يفي حقّ ما هو فيه فقال “أفنتِ الشعراءُ كلامها في الموجودات وهم لا يعلمون».

الشعر باعتباره كلاماً جوهرياً له وشيجة كبرى بالحبّ ومباشرة العلاقة مع العالم بنحو رغائبيّ، كما أنه ـ في نماذجه الكبرى على الأقل ـ لا ينفكّ عن الميتافيزيقيا، أصلح مثال لنسيان الوجود العميم هذا. فكأن ابن عربيّ يقول إن الجميع، حتى الشعراء الذين هم سدنة الحبّ والغيب معاً، يترددون في آثار الحبّ لا في الحبّ نفسه، ويشتبكون مع الموجود في عين الوقت الذي يريدون الوجود.

أفنى الشعراء كلامهم كلّه في ما لا يُشفي، وهو باعتقادي معنى الهيمان في كلّ وادٍ المشار إليه في القرآن، وهو أمر لا فكاك عنه إذ الكلّ في حجاب، وبتعبير ابن عربيّ “حتى مقام اللا حجاب حجاب آخر”، حتى الشعراء الذين هم طالبو وجودٍ وراغبو حبّ، أفنوا خزين كلامهم في الموجودات وضاعوا في الآثار.

نسيان الوجود أمر حتميّ يتكرر مع الأنفاس، أو بتعبير فوكو “في قمة كل عبارة ممكنة لا يصل الإنسان إلى قلبه بل إلى الحافة التي تحده في المنطقة التي يجول فيها الموت».