الفساد بوصفه ظاهرة إجراميَّة

آراء 2023/01/18
...

 فارس حامد عبد الكريم*

إن لكل ظاهرة إجرامية خصائص خاصة تتميز بها عن غيرها من الظواهر الإجرامية. وعلى هذا النحو فإن لظاهرة الفساد خصائص خاصة بها، ومن أهمها:

1 - من حيث الطبيعة ونوعية الجناة:

تعد جرائم الفساد من الجرائم التي تخل بواجبات الوظيفة العامة والتكليف العام حسب الأصل، حيث ترتكب من قبل أفراد تشغل وظائف عامة أو تمارس تكليفاً عاماً. 

إلا أن اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد لسنة 2005 قد اطلقت ذات الوصف على النوع نفسه من الجرائم المرتكبة من قبل افراد القطاع الخاص. 

وينص على جرائم الفساد في القوانين العقابية على سبيل الحصر تطبيقاً لمبدأ (لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص)، وهناك جرائم فساد لا يخلو منها أي قانون عقابي، منها جريمة الرشوة وجريمة الاختلاس، وجريمة الرشوة هي الأخطر على المجتمع والقيم الخلقية.

حيث إنها لا تترك خلفها أثرا مادياً كونها تتم خلف الأبواب الموصدة.

وتتجسد خطورتها في انها تدفع مقابل الحصول على معلومات عسكرية أو اقتصادية أو لتمرير صفقات فاسدة أو أنها تتسبب في إفساد القطاع الصحي أو التعليمي أو إيقاع ضرر في البيئة، مما يهدد أمن وسلامة المجتمع ككل.

2ـ إنها جريمة تنظيمية: وهي الجريمة التي ينسب ارتكابها إلى المرفق العام ذاته ويطلق على هذه الخصيصة وصف أو مصطلح (انحراف المؤسسات الحكومية)، وترتبط هذه الخصيصة بالمرفق العام لا بأعضائه من الموظفين فقط، حيث لفت انتباه الباحثين إلى أن هناك مؤسسات حكومية ارتبطت بالفساد منذ نشأتها وبقي سمة ملازمة لها حتى بعد تغيير ادارتها المركزية أو موظفيها عبر الزمن، كالتقاعد أو النقل أو إعادة التأسيس أو غيره، بمعنى آخر أن طبيعة عمل المرفق العام هي التي تشجع الموظف الذي لا يمتلك حصانة على ارتكاب الجريمة، وهكذا تتغير الوجوه ويبقى الفساد قائماً وتبدو هذه الخصيصة واضحة في المؤسسات العسكرية والتجارية وهيئات الضرائب ومكاتب منح الرخص واية مؤسسة لها صلة بالأنشطة الاقتصادية كالاستيراد والتصدير 

والتموين. 

3ـ إنها ظاهرة ذات صلة وثيقة بالجريمة المنظمة: تعتمد مؤسسات الجريمة المنظمة على الفساد بصفة أصلية، لتحقيق أهدافها ومشاريعها الإجرامية عبر القارات وتمرير صفقاتها واستردادها في حالة الحجز عليها اداريا، وهي تعتمد على الفساد ايضاً في حماية أعضائها من المساءلة في حالة القبض عليهم واعاقة سير العدالة.

ومن جانب اخر يُشجع الفساد على نشوء الجريمة المنظمة، فالدولة التي ينخر الفساد جسدها تشكل عامل جذب للمنظمات الإجرامية الدولية.

التي تدخل البلد على شكل شركات مقاولات أو مؤسسات فنية أو جمعيات خيرية وتمارس في الخفاء أعمال غسيل الأموال أو تجارة المخدرات أو الاتجار بالبشر أو تجارة الأعضاء البشرية أو الدعارة. 

كما وتسهم الجريمة المنظمة في تعميق ظاهرة الفساد وتفشيها بما تضخه من اموال ضخمة كرشاوى للحصول على التراخيص والاعفاء الضريبي أو الجمركي والمقاولات والمعلومات السرية وإخفاء الأدلة الجرمية والتأثير على سير العدالة وللتخلص من الرقابة أو غلق التحقيقات التي تجري بشأنها.

وبالمقابل تدعم مؤسسات الجريمة الموظفين الفاسدين للوصول إلى المناصب القيادية العليا، سواء عن طريق الدعم في الانتخابات أو استخدام النفوذ لدى القيادات العليا والأحزاب السياسية في حالة التعيين. 

ويكاد يجمع الباحثون على أنه لولا الفساد لما كانت هناك جريمة منظمة مطلقاً، فالفساد هو البيئة التي تنمو فيها ظاهرة الجريمة المنظمة. 

ويتحقق كل ذلك في ظل غياب الشفافية والرقابة والمساءلة أو عدم فعاليتها. 

4ـ السرية والسكوت: فشلت في كثير من الأحيان جهود مكافحة الفساد في مختلف دول العالم، ذلك أن الفساد جريمة سرية (ضبابية) يصعب في كثير من الأحيان اثباتها من خلال الوسائل التقليدية للإثبات والتحقيق، بالنظر لاحتياط الفاسدين بعدم تركهم وراءهم دليلا ماديا يشير إلى تورطهم في هذه الجرائم، إذ هي تتم خلف الأبواب الموصدة، ويرتكبها في الغالب أشخاص على قدر من الدراية والمعرفة بأساليب الالتفاف على القانون، ولذا يعجز ضحية الفساد غالبا عن إثبات دعواه أمام القضاء.. وازاء هذا التحدي الكبير سعى فقهاء القانون والمعنيين بجهود مكافحة الفساد إلى إيجاد أنظمة قانونية جديدة تتسم بالفعالية والمرونة في التطبيق تكفل الحد من هذه الظاهرة الخطيرة إلى أبعد مدى ممكن ودراسة اسباب الفشل، الذي اعترى وسائل مكافحة الفساد. 

ومن هذه الرؤية المعمقة برزت الأفكار الوقائية الخلاقة كأسلوب علمي حديث حقق نجاحاً باهراً. 

5ـ استخدام النفوذ: تتميز هذه الجريمة في أنها ترتكب غالباً من قبل رجال الساسة والأحزاب والسلطة العامة عموماً، ممن لديهم القابلية على النفاذ إلى مؤسسات الدولة الرسمية والقضائية والعسكرية، والتأثير عليها بما يمتلكونه من نفوذ وسلطة وهيمنة، فضلا عن قابليتهم على الحيلولة دون تقديم الشكاوى بالتهديد والوعيد أو بدفع الأموال لشراء 

السكوت.

6ـ الواجهة الإجرامية: تمارس جرائم الفساد باستخدام اساليب ملتوية منها، أنها تمارس بوساطة شركاء يمثلون الواجهة للفاسد الأصلي الذي يشغل عادة مركزاً مرموقاً أو وظيفة ذات صلة مباشرة بحاجات الناس كالرخص الإدارية، ويبقى الفاسد الأصلي خارج مدى الرؤية والمسؤولية.

ويظهر الفاسد عادة امام الناس ووسائل الاعلام بمظهر الشريف. 

ويُختار الشركاء عادة من بين البسطاء أو من ذوي النفوس الضعيفة والضمائر المنحطة الذين يسهل التخلص منهم في نهاية الأمر، وذلك بإلقاء المسؤولية الجنائية على عاتقهم أو قتلهم اذا اقتضى الامر. 

7 - إنها ظاهرة ذات طبيعة اقتصاديَّة:

تأثير الفساد السلبي على الاقتصاد الوطني أمر متحقق دائماً. 

ويقلل الفساد من فرص الإعمار والتنمية وفرص الاستفادة من المعونات والقروض الدولية ويخفض من معدلات النمو بصورة كبيرة، كما يؤدي إلى تدهور البنية التحتية والخدمات العامة. 

وتؤكد تقارير منظمة الشفافية الدولية، أن الرشاوى التي يستولي عليها قلة من البشر، تؤثر بشكل كبير في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، مثل: القضاء على الجوع الذي يعاني منه 1.2 مليار شخص يعيشون على أقل من دولار في اليوم، وتعميم التعليم الابتدائي،، وتخفيض وفيات الأطفال دون سن الخامسة بواقع الثلثين. 

وتؤكد المنظمة "أنه عندما يغلب الإنسان المال على القيم، تكون النتيجة إنشاءات رديئة الجودة وإدارة ضعيفة للبنى التحتية، وأن في ذلك مضيعة للمال، ونهبا لموارد الدول، وقتل أرواح في الكثير من الأحيان"، و"يجب أن تكون الشفافية الشعار الأول. 

وتخلص أبحاث معهد البنك الدولي إلى أن أكثر من تريليون دولار أميركي تدفع رشاوى كل عام عدا الاختلاسات.

وتبين أبحاث معهد البنك الدولي أن البلدان التي تكافح الفساد وتحسّن سيادة القانون فيها يمكنها أن تزيد دخولها الوطنية بما قد يبلغ أربعة أضعاف على المدى الطويل، وأن بلدا يبلغ نصيب الفرد فيه من الدخل 2000 دولار، يمكنه اذا جابه الفساد وعمل على تحسين نظام الادارة العامة وسيادة القانون فيه، أن يتوقع زيادة نصيب الفرد من الدخل فيه إلى 8000 دولار أميركي على المدى الطويل.

 

*النائب الأسبق 

لرئيس هيئة النزاهة الاتحادية