صناع التفاهة

آراء 2023/01/19
...

 نرمين المفتي 


إن حرية التعبير الذي يضمنه الدستور العراقي، كما يضمنه الاعلان العالمي لحقوق الانسان في مادته ١٩ وتعتبره حقاً أساسياً من حقوق الانسان، ليس مطلقا وهناك قيود وقوانين في كل بلدان العالم ضد الذين يستخدمون هذا الحق بقصد التشهير والابتزاز والفحش والتحريض على الجرائم.. ومع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، اصبحت هذه القيود مشددة اكثر بسبب التأثير الكبير لهذه المواقع وسهولة التواصل من خلالها وسهولة انتشارها في كل بيت تقريبا، فضلا عن الوارد المالي الذي توفره هذه المواقع لصناع المحتوى، الذين لديهم متابعين باعداد كبيرة.. ولزيادة هذا الوارد، هناك من يبدع في البحث عن محتوى أفضل وتطوير موقعه أو صفحته أو قناته، وفي المقابل هناك من يمعن بالسوء ويستمر بتقديم محتوى هابط، وللأسف فإن متابعي هؤلاء غالبا يكونون اكثر من متابعي المواقع الرصينة.  وحسنا فعلت وزارة الداخلية حين قامت بتشكيل لجنة لمتابعة المحتويات، كما جاء في بيانها «في مواقع التواصل ومعالجة الهابط منها وتقديم صانعيها للعدالة»، وأضاف البيان أن «القضاء دعم مقترحات الأجهزة الأمنية حول ملف المحتوى في مواقع التواصل الاجتماعي». وأكد البيان أن اللجنة باشرت عملها وتمكنت من الوصول إلى عدد من صناع المحتوى الهابط والقبض عليهم. 

لا بدَّ لي من القول إن وزارة الداخلية بدأت خطوتها الجيدة هذه متأخرة وأضيف (ان تأتي متأخرة أفضل من ألا تأتي أبدا)، فهناك العديد من الدول العربية والغربية بدأتها قبل سنوات، طبعا كل بلد حسب قيم مجتمعها وأعرافه وتقاليده.. ففي مصر، مثلا، تمت محاكمة صانعات محتوى مشهورات على مواقع التواصل الاجتماعي، لكونهن مبتذلات جدا ويسئن إلى المجتمع، وقد يصبحن مثالا سيئا للاحتذاء بهن.. ومثلهن موجودات على مواقع التواصل الاجتماعي في العراق، ولدينا ايضا صناع محتوى مثلهن وربما أسوأ، ليس على المستوى القيمي والأخلاقي فقط، إنما في الابتزاز والتشهير والتحريض الطائفي وغيره من افعال تعتبر قانونيا جناية أو جريمة. ودعت وزارة الداخلية عبر موقعها على الانترنت الناس إلى الابلاغ عن صناع المحتوى الهابط عبر رابط من خلال الصفحة. 

ومع الإعلان بدأ العديد من المدونين والمدونات حملة تحت وسم - هاشتاغ (#حملة -اسقاط - مشاهير- التفاهة) وتدعو الحملة إلى عدم متابعتهم وكشفهم، وهناك مع الوسم عشرات الصور، شخصيا لم أتعرف الا على اثنتين بينها. وجميعا نعرف مدى أهمية مواقع التواصل الاجتماعي في خلق رأي عام مؤثر سلبا احيانا وايجابيا غالبا. 

من خلال المتابعة، فإنَّ تأثير صانعات المحتوى الهابط لا يختلف في تأثيره السيئ من صناع محتوى يحرضون على العنف أو الطائفية.. فعدد من صانعات المحتوى اللواتي صارت صفتهن (فاشنستات أو مودلز)، بل وإن بعضهن يستخدمن صفة (اعلامية) ايضا، اصبحن بما يملكن من سيارات حديثة فارهة وبيوت أو شقق فخمة وجوازات ديبلوماسية (قدوة) أمام المراهقات اللواتي يبحثن عن الشهرة والمال و(يحلمن) بعمليات تجميل تغير من أشكالهن، كما فعلت وتفعل الفاشنستات ويحلمن أن يكن صاحبات (سلطة) مثلهن!! وفي مشهد كوميدي اسود، اجابت ممثلة عراقية رصدتها الكاميرات وهي تجلس في مدرجات الجمهور في ملعب (جذع النخلة)، حين سألها مقدم أحد البرامج عن سبب عدم جلوسها في مقصورة الشخصيات المهمة مثل غيرها، بان « لا يوجد حجي في 

ظهرها».. 

إن متابعة هؤلاء والقبض عليهم ليست ضد حرية التعبير، بل تشكل دفاعا عن حرية التعبير التي تستهدف كشف الفساد واصحاب الوعود الكاذبة، والذين يستغلون مناصبهم، وفي الاشارة إلى الاخطاء الحكومية وما ارتكبتها المحاصصة في العراق، إن حرية التعبير من اهم اركان بناء مجتمع سليم ودولة حقيقية، ولا بدَّ من تنقيتها ممن يستغلها، ولكن من خلال قانون واضح جدا لا لبس في موادها ولا تقبل التأويل.