مخاطر الفلسفة

ثقافة 2023/01/21
...

  حازم رعد 

لعله من الواضح أن لبعض الأفكار والممارسات مجموعة مخاطر وهي مجموع التداعيات التي تنجم عنها، وذلك لأسباب عدة قد يكون أهمها تخلل الخطأ في عملية التفكير أو الاعداد والتخطيط، أو لسوء الاستخدام والتصرف، فالالات الجارحة إذا أسيء استخدامها ستكون فيها مخاطرة وكذلك استخدامها في غير ما صنعت من أجله "الطعام" ستؤدي إلى مخاطرة أن تجرح يد مستخدمها أو  أحد سواه من الناس.

كذلك العلوم لها مخاطر فيما لو استخدمها في ما يضر البشر فالفيزياء لها فضل كبير على البشريّة من ناحية كونها علماً ينتفع به، ولكن أيضاً تكمن خطورتها فيما لو استخدمت كنظرية لانتاج الأسلحة الفتاكة وأسلحة التدمير الشامل، وكذلك باقي أشياء وعلوم العالم كلاً بحسبه فيه فوائد ونتاج ايجابي في حال استخدم بصورة صحيحة وسليمة.

تتميز الفلسفة بكونها نشاط عقلاني وفاعلية ناقدة للواقع وهذا الأخير يشتغل في جانبين الأول: نقض النظريات والمحتملات التي تفسر الواقع وتصور ماهيته فهي نقد للتأسيسات التي يقوم عليها الفعل والتصرف وإجراء تحليل داخل الأطر المعرفيّة التي تشكل مقدمات تلك الممارسات.

والثاني: تمييز الفكر ذاته والمعرفة نفسها وبيان حقيقتها وحدودها.

مخاطر الفلسفة عنوان اجتذبني عند سماعة كان يصور إليَّ أنَّ للفلسفة جانبا سلبيا بحد ذاتها وبجوهر حقيقتها، إلا أنه بعد الامعان جيداً بالفكرة والممت بها إجمالاً تبدلت الصورة في مخيلتي ووجدت أن لها نسبة كبيرة من الحقيقة، فمخاطر الفلسفة كما يقول الفيلسوف الأمريكي مايكل ساندل تكمن في (أنها تجعل من الإنسان في مواجهة مباشرة مع ما يخشى معرفته) فإذن بحسب ما يقول إن الذي يخشاه الإنسان ليس ما يجهله فقط. 

فما الذي يعرفه الإنسان ويخشى أن يواجهه ويباشره؟ 

قد نستطيع القول هو المسلّمات والقبليات التي بني عليها فكر الإنسان ردحاً طويلاً من الزمن فشكلت تلك المسلّمات بناءه الداخلي وحددت معالم شخصيته في الخارج وأمام الناظر والفلسفة في بحثها للأشياء تقوم بنسف المسلّمات وإعادة تحليلها وبناء نظرية جديدة قد تكون غير ما تعلمه الإنسان أو اعتادة فالفلسفة من هذه الناحية تشكل خطراً.

أو قد يكمن خطر الفلسفة بعدم التسليم بالأفكار الساذجة والبسيطة التي تغذي عموم الفكر للمدرك العام للمجتمعات وتدير العقل الجمعي لها، وهذا ما تنقضه الفلسفة بيقينية البرهان وعقلانيته وهو خطر من جهتين الأولى؛ سيهدم تلك المعرفة المغلوطة في محاولة لابدالها بمعرفة مبنية على أساس العقلانية، وهذا ما ترفضه المنظومات الاجتماعية والعرفية، وأيضاً في أنها تجعل من هذا العلم والقائم على التفلسف هدفاً لمرامي سهام الرافضين والمزدرين، فهناك مثلا سقراط، ابن رشد، والحلّاج، والسهروردي، والملا صدرا فقد اتهموا بالزندقة وأبيحت دماؤهم وشرّدوا من ديارهم لذات السبب أنّهم حاولوا بث الوعي العقلاني بين الناس. 

وأيضاً تكمن خطورة الفلسفة فيما لو وقعت في متناول أناس غير أمناء فكرياً ومعرفياً فيستخدمون مفاهيمها ولغتها الخاصة لتضليل من لا يعرفها ولا يفهم في لغتها بقوة الكلمات ومتانة الجمل يقول 

نيتشه (الكلمات في الفلسفة يصنعها الأقوياء..).

فإذا أسيء استخدامها ضللت الناس وأوقعتهم في متاهات ودهاليز مظلمة يصعب الخروج منها والانفلات عنها.

خطورة الفلسفة من نوع مختلف تماماً فهي بما تتدخل به من جوانب ومستويات تهم الإنسان وتحتك بواقعه يمكن أن تأسر ذهنيته وفق ايديولوجيا وبناء معرفي مغلوط يُعمم ليكون نظرية عامة واعتقاد راسخ يتعذر محوه بعد حين. 

وتظهر خطورة الفلسفة في إمكانيتها بما هي طريقة عقلانية في تعاطي الأشياء نقداً وتفكيكاً من تهذيب الواقع الذي يعيشه أي مجتمع وتجديف مقاربته ومدركاته العامة وامكانية حصول التجديد فيها وخلق مناخ آخر للدينامية في العقلانية التي تقوم على الاعتدال وقبول الآخر والأشياء على ما هي عليه ومن ثم التحرك عليها ضمن ذلك الفهم المقبول، واكيداً أن هذه الخطورة ستكتسب طابع العمومية فهي إحدى مخرجات العقل الذي يتسم بتلك الخصوصية.

فمن هذه الناحية تكون للفلسفة (بما هي علم عقلي) خطورة على السلطة (بشكل عام كالسلطة السياسية والدينية والثقافية السائدة وغيرها) التي تفرض إرادتها ونفوذها في مساحاتها المهيّأة وميادينها المألوفة لها وتقوض من هيمنتها تلك وتلجمها بلجام العقل والتحرر والفك من التقييد والانغلاق السلطوي ذاك. 

وترتبط الخطورة هنا وتكتسي بصفة الحداثية وتجاوز ماهو سائد وليس كل السائد بل ما يشكل أزمة ومعوقا أمام حركة التجديد والتحديث العقلاني في المجتمع والسياسة وباقي الأبعاد والمستويات.

وكذلك تصعد من مرتبة خطورتها في كونها علماً مجهولاً عند العامة بشكل غالب (والناس أعداء ما جهلوا) فتبقى الفلسفة محل ازدراء وتهمة بالتزندق فيما لو بقي العامة على جهلهم بها وبالموضوعات والمنهجية التي تعتمدها، وقد استغل هذا الأمر عبر لتاريخ لضرب الفلاسفة وإرغامهم على الخضوع وترك العقلانية التي يدعون اليها لكي تبقى المجتمعات على تسليمها بالسائد والمألوف فالناس لا يدركون ان (الفلسفة هي جهد عقلي انساني لفهم وتطوير علاقة الفكر بالوجود)، بل هي مجموعة من المفاهيم والاصطلاحات الجوفاء التي لا تعبر عن شيء سوى التضليل والتدليس والاحتيال وسبب هذا الفهم المغلوط عن الفلسفة هو الفلاسفة أنفسهم، إذ أنهم ابتعدوا عن الواقع والناس واتخذوا من بروجهم العاجية ملاذاً متنكرين للواقع برمته، فولد ذلك انطباعاً سيئاً عن الفلسفة والفلاسفة بأنّهم أما معقدون ويعانون عقداً نفسيّة جعلت منهم ينعزلون بأنفسهم وأفكارهم عن عامة الناس أو أنهم مكابرون يتعالون على واقعهم ويتنكّرون له ليؤسسوا بذلك لطبقيّة جديدة، قسيماها المتعلم والنخبوي من غيره، وذلك أيضاً كان عامل خطر على الفلسفة من ذات المهتمين بها.