ثقافة الكاتب في سرده الروائي

ثقافة 2023/01/22
...

 ابراهيم سبتي 

        

الثقافة هنا، الرصيد المعرفي لكل شيء في الحياة. فالرواية سرد متواصل يحمل أفكارا وأحداثا وابتكارات وصناعة. كل ما يحتاج من الكاتب لإيصاله إلى المتلقي، دقة المعلومة ومعرفتها بالاطلاع والادراك والدراية الفطنة، والفهم والاستزادة من خزينه المعرفي بكل فروعه واتجاهاته. واستعداده للإجابة عن الغامض والمستور مما كتب.. أي أنه يُسخّر ثقافته في متناول من يريدها. فالثقافة ليست أداة أو آلية يكتب بهما الروائي متى ما أراد، بل هي روح الكاتب وهويته وميزته وقوته وتفرده وحياته وفعله الذهني الذي يقدمه للآخر مسطرا على أوراقه من دون تردد أو 

خشية. 

والاطلاع والقراءة مهمة في تحديث معلومات الكاتب في كل الجوانب، فعليه أن يكون ملما بالتاريخ واحداثه ووقائعه، والجغرافية والأماكن والمدن وغيرها من المعلومات الاجتماعية والعلمية واللغوية والفنية.. إن الكتابة السردية تحتاج جهدا كبيرا وتنقيبا في الأفكار واللغة وايراد المعارف والمعلومة لخلق دائرة وعي يصنعها الكاتب بثقة وأمانة وصدق.. فالثقافة بمعناها السامق، ترتبط ارتباطا متصلا ومباشرا مع الكتابة لكي تجعل منها منتجة وتمنحها الحياة ومن دونها سيكون السرد يابسا وجافا كأرض جدباء لا خضرة يانعة فيها ولا ماء

يجري. 

إن معظم الروايات الكبيرة التي مرت علينا خلال الحقب والأزمنة، كانت أشبه بالملاحم وهي زاخرة بمختلف المعارف والاجوبة والمعلومة والدقيقة والفلسفة. ففتحت أبواب الفهم والادراك والجدوى المعرفية المكتنزة  للقارئ، وهو يتصفح بمتعة ولهفة تلك الأعمال الخالدة التي سجلت لها حضوراً في المكتبة الروائية وصارت ايقونات لامعة. 

سألت أحد اصدقائي الروائيين مستغرباً كيف أجاد كتابة تفاصيل بطله المجنون في يومياته؟ فأعجبني جوابه بأنه استعان بقريبه الذي أودع لسنتين في مصحة للأمراض النفسية واستفاد منه في كل شيء حتى عرف اسماء الأدوية التي تناولها هناك وشكل الحياة وصورتها في المصحة.. هي اذن كسب معرفي لزيادة الرصيد الثقافة ولا أجد فيها نقصاً أو عيباً، إنما اجادة واتقان ومهارة في ايصال ما يمتلكه الكاتب إلى قرائه وجعلهم يبنون فضاءات من الفائدة والكشف والمتعة والدخول إلى عوالم كانت غامضة بالنسبة لهم. إن توظيف المعرفة ووضوح رؤية الكاتب واتساع آفاقه داخل النص الروائي، سيمنحه بالتأكيد دفعة قوية أن أحسن استخدامها مع الفكرة واللغة واخرجها باسلوب مقنع. وهذا ما يبحث عته المتلقي في الكم الهائل من المنتوج الروائي، والذي يحتاج منه التدقيق في تناول الجيد منها وفق رؤية وذائقة وذهنية

متوقدة. 

لقد اصبحت الرواية تجسيدا للمعطى الحياتي العام بكل عناوينه وفروعه وأجزائه حتى صارت علامة مرسومة بدقة  للمنتج الانساني الفردي، وما يعكسه الواقع اليومي للإنسان وتجاربه وخبراته. وبمعنى أكثر وضوحا صار على الروائي كنتيجة حتمية لما يدور في المحيط العام، بان عليه مهمة اخراج المتلقي من فضاء الواقع وبؤسه وأزماته وعثراته، وادخاله إلى خياله الرحيب المنفتح على فضاء من الخلاص والأمل ومن ثم سحبه إلى خانة وردية عبارة عن فسحة جمالية وبهيجة ساحرة وهو ما يتطلع اليه الإنسان

 بطبيعته.

وكنتيجة مباشرة فإن الفعل الروائي صار طريقا معبدا للتعبير عن معنى الحياة، وهي مهمة ليست سهلة أبدا على الكاتب لاسيما انه يدوّن معلوماته وتجاربه ومعارفه وموسوعته الفكرية ووعيه الذاتي بكل انزياحاته، داخل السرد الذي بالتأكيد سيكون فاعلا في اعطاء الفائدة المتوخاة للمتلقي الذي سيكون سعيدا وهو ينهل من سجل الروائي المعرفي والفكري ويحصد عالما اثرائيا فيه الكثير من المعنى والتأثير. فيشعر المتلقي بنشوة الربح وجني ثمار المعرفة بفروعها والاستزادة المفعمة بطعم الغنيمة والمنفعة التي بذخها الروائي في سرده، جراء ثقافته المتمثلة في كمية العلوم والمهارات والامتيازات التي دونت في السرد

الروائي. 

الأمر الذي يأخذنا الى حقيقة ساطعة وهي إن ليس كل كاتب سرد او غيره مثقفا اطلاقا.. فكثير من المكتوب لا ينتج شيئا ولا يمنح فائدة وهو ما يكشفه القارئ الذكي دائما في تقييمه فضلا عن الناقد الذي لا تفوته مثل هكذا حقائق. فالروائي المثقف النجيب المكتنز والمملوء، هو من يستطيع بلورة أفكاره إلى محسوسات مثالية ملموسة بخبرته وفطنته ودرايته ويدوّنها بثقة العارف في سرده

الروائي.