{إيّامي} يتجاوز الدراما إلى التوثيق والتجريب السريالي

ثقافة 2023/01/23
...

  عدنان حسين أحمد

 

ثمة أفلام سينمائية تتخطى التصنيفات والقوالب المرسومة سلفًا، وفيلم "إيّامي" Eami للمخرجة البارغوايانية باز أنسينا من هذا النمط الذي يتجاوز حدوده الدرامية ويقفز إلى التوثيق والتجريب والنَفَس السريالي ولا يجد ضيرًا في التحليق صوب الخيال المجنّح. وأكثر من ذلك فهو يجمع بين الاثنوغرافيا والواقعية السحرية، ولا تنسى المخرجة أن تعرّج على الشامانية والجانب الروحاني الكامن في تضاعيفها رغم تناقضها مع العِلم والطب تحديدًا، إلاّ أنها توفر للمريض بعض أشكال الراحة النفسية التي تساعده على الاستشفاء.

يمكن حصر ثيمة الفيلم الرئيسة بالبيئة أو الطبيعة وما تنطوي عليه من عناصر أبرزها الأشجار والأنهار والبحيرات والكائنات الحية التي تعيش فيها. ولعل السكان الأصليين في الغابات البارغوايانية المطيرة الذين تنتمي إليهم المُخرجة وتعيش بين ظهرانيهم هم جوهر الفيلم وخلاصته الدرامية والاثنوغرافية التي ينبغي توضيحها قبل الخوض في تفاصيل الفيلم وتشعباته الدقيقة.

يُطلق على السُكّان الأصليين في البارغواي اسم "أيوريو" ويبلغ عددهم 2600 ويعيشون في منطقة غران تشاكو المحاذية لبوليفيا ولم يغادروا عزلتهم وغاباتهم المطيرة ولا يحبذون الاحتكاك بغير أبناء جلدتهم، ويتحدثون لغة الأيوريو التي أصبح لها قواعدها اللغوية ومُعجمها الخاص لكن نسبة المتعلمين لم تجتز الـعشرين بالمئة حتى الآن، فلا غرابة في أن تكون حياتهم بدائية، وبسيطة جدًا، وتعتمد في جانب كبير منها على الخرافات والأساطير المحليّة التي تختلقها الذاكرة الشعبية للناس التي تضع ثقتها وقناعتها الكاملة بالشامانية التي تندرج في إطار السحر والشعوذة أو في عالَم الأرواح في أفضل الأحوال.

يتناول هذا الفيلم ثيمات متعددة ومتصلة إلى حدّ التشابك فإزالة الغابات تفضي بالتأكيد إلى إبادة السكان الأصليين أو اقتلاعهم قسريًا من الأمكنة التي عاشوا فيها وألفوها منذ آلاف السنين ولا يمكن أن يستبدلوها بأجمل العمارات السكنية المُبهرجة. ينتمي هذا الفيلم في قسم كبير منه إلى السينما التأملية البطيئة التي تعتمد على براعة الصورة وانسيابيتها، ورخامة الصوت ونعومته التي تداعب الآذان المُرهفَة خصوصًا حينما يتعلّق الأمر بذاكرة المكان وما ينطوي عليه من قصص عاطفية واجتماعية وإنسانية. لا يخلو الفيلم من تأثير الدين وهيمنة السياسة، فالمبشّرون أسهموا، بقدرٍ أو بآخر، باقتلاع بعض السكان الأصليين الذين استجابوا للإغراءات المادية والمعنوية، وغادروا حاضنتهم الطبيعية إلى المدن والحواضر البارغوايانية. أما السياسة فنعني بها الاستعمار وأتباعه وذيوله في الداخل الذين يزيلون الغابات ويثرون من جرائها ثراءً فاحشًا.

تتلخص ثيمة الفيلم بفتاة تُدعى "إيّامي" Eami عمرها خمس سنوات تغادر الغابة التي تتعرض للحرق، والإزالة، ومطاردة أزلام "الرجال البيض" الذين تصفهم المخرجة بـ "غير الحسّاسين" الذين يفتقرون إلى الأحاسيس والمشاعر الوطنية. وفي أثناء هذه الرحلة التي تُشبه حلمًا غامضًا تستعيد ذكرياتها مع صديق طفولتها "آكوهاي" الذي تتمنى له أن ينجو من مطارديه، ويظل باقيًا على قيد الحياة. 

لا بد من الإشارة إلى المشهد الافتتاحي الذي ظل ثابتًا على الشاشة لقرابة ثماني دقائق وهو مشهد البيضات الأربع التي وضعت على مقربة من الماء لكن المساقط الضوئية عليها كانت تتغيّر وتعطي إحساسًا بمرور الزمن وتقادمه، وربما يلعب صوت الريح المزمجرة دورًا في تعجيل هذه الحركة الزمنية التي تحاول رصد الذاكرة واحتواءها. لا تخلو شخصية "إيّامي" المركبّة من بعض التعقيد فهي تجسّد شخصية "آسوها" الأسطورية التي تقول: "في وقت من الأوقات كان هناك نفَس، ومن ذلك النفس وُلدت الريح، ومن تلك الريح جاءت أغنية، ومن تلك الأغنية انحدرنا نحن سكّان الطبيعة، وكنت أنا من بينهم، ثم أصبحتُ طيرًا بشكل امرأة، ثم كان العالم أيوريو" إلى آخر هذه الأسطورة المعروفة في البارغواي وما جاورها من بلدان. فشخصية "إيّامي" المزدوجة تريد أن تقول إنها تحمل في أعماقها أرواح كل أولئك الذين تركوا الغابة بسبب الحرائق التي أشعلها الباحثون عن الثراء الفاحش وأخرجوهم عنوة من موطنهم الأول. وهي الآن منشغلة بصديقها "ديكساي" الذي توارى في غفلة من الزمن.

مع أن الشامان يرتبط بالسحر والشعوذة عمومًا إلاّ أنه في هذا الفيلم بدا أقرب إلى الطبيب الشعبي الذي يعالج المرضى بالرُقى والتعازيم والأدعية الروحية. وقد رأيناه غير  مرة  وهو  يقرأ  تعاويذه بينما يحرِّك ريشة بيضاء بشكل دائري على جسد المريض العاري حتى من ورقة التوت.

ربما يكمن بعض من جمالية الفيلم وسحره الجذّاب في تصوير أشجار الغابات المكتظة بما تشتمل عليه من حيوانات وطيور وسلاحف تتابعها عين الكاميرا عن قرب وترصدها بطريقة محببة إلى البصر والبصيرة بحيث نظل نفكّر بالسحليّة والخنزير البري وحيوان آكل النمل وغيرها من المخلوقات التي تكتظ بها الطبيعة البارغوايانية البِكر.

على الرغم من الاجتياح المسلّح وتوزيع الملابس بين السكان الأصليين الذين يغادرون أكواخهم إلا أن الفيلم لم يأخذ طابعًا حربيًا يُفقده الهدوء والسكينة واللمسة التأملية التي أتاحت للأطفال والشامانات على حد سواء أن يأخذوا مساحة كافية من الفيلم الذي بلغت مدته 83 دقيقة رغم أن عصارته تكمن في اسم الشخصية الرئيسة "إيّامي" التي تعني الغابة أو العالَم وسكّان الأيوريو لا يفرّقون بينهما ويعتبرون الغابة هي العالم والعكس صحيح.

جدير ذكره أن المخرجة البارغوايانية باز أنسينا هي من مواليد أسونسيون سنة1971م. درست في بوينس آيرس وحصلت على درجة البكالوريوس في التصوير السينمائي. عُرفت من خلال فيلمها الروائي الطويل المعنون "أرجوحة بارغواي" 2006م الذي حاز على جائزة النقاد "فبريسي" في مهرجان "كان السينمائي". وسبق لها أن قدّمت أفلامًا قصيرة مثل "القيلولة"، و "سحر الياسمين"، و "أَعرف أنك كنت حزينًا". وفيلم "إيّامي" هو فيلمها الطويل الثاني الذي خطف جائزة النمر في مهرجان روتردام السينمائي الدولي وقيمتها 40,000 يورو.