أخلاقيَّة الثقافة الدائمة

ثقافة 2023/01/23
...

  ياسين طه حافظ  

نتحدث في طبيعة، في امتياز الجوهر الإنساني للثقافة. فالشعر والفنون مثلا والعلم والمعرفة بكل تاريخها ربما تكون الوحيدة التي مجدها في انتقالها للغير وعظمتها في استطاعتها الانتقال لا البقاء في المكان. هنا الكرم في أسمى أحواله وأجلها. يمكن أن ندخر المال ذهباً أو أرقاماً ويمكن أن ندخر الطعام ونظن به على سوانا. لكن المعرفة، بصنوفها الثقافيَّة كلها، لا تنتفع بالثبات قدر انتفاعها ونفعها في مدى انتشارها وأبعادها، بل وابتعادها من هذا الفرد لذاك ومن هذا البلد إلى ذلك البلد، قريباً كان أو كان في أقصى الأرض.

الشعر يُروى ويترجم ويجوب العالم قدر امتيازه وامتياز معانيه. والفن همُّ صاحبه المفِنّ أن يراه الناس، ناس بلدهِ وناس الأرض كلهم. كذا العلم، كل العلوم، صفاتها الأولى وامتياز طبيعتها في أمميتها وانتقالها من مصدرها إلى الناس في العالم. حتى ناس القبائل والشعوب البدائيَّة، يهمهم ويبهجهم التعلم. وأن يعلموا سواهم، سواءٌ بأجر أو بكرم وتفضل. وأولاء ينقلون ما علموا. هذا ما يكشفه لنا بوضوح وبفخر انتشار الحضارات في مختلف مراحل التاريخ. وإن كان هناك ما يفرح الشاعر والكاتب فهو ترجمة أعماله ليطلع عليها الناس. وإن كان هناك ما يسر العالِم، فهو حديث الناس بعلمه وأفكاره. هذا امتياز تشارك فيه التجارة. لكن هذه ينحاز فيها كِبَر الجدوى ويحكمها المردود النفعي. في حال الشعر والعلوم، اللذة في وصول النتاج الفردي لأكبر عددٍ في الدنيا. وعموم الثقافة الوطنية إلى شعوب وبلدان أخرى. 

ليست هذه صفةً وكفى. هذا مجدٌ وامتياز تفكير. فبهذا التواصل اكتسب البشر سعةً في الحياة ومباهج ومنافع زادتهم، كما زادت الشعوب التي تلقت ما عندهم، حياةً وأعطت حياة الجميع بعداً ومعنى وانسانية يطيب بها العيش والآمال، وبها ومنها التطور والتقدم البشريان. فكم عظيم هو مجد انتقال الحضارات وانتفاع ناس الارض بهذا الامتياز الذي لا مثيل له.

ونحن حتى اليوم نفيد مما تكشفه البحوث والحفريات من علوم وأسرار الماضي وهي مندثرة مضت عليها ألوف السنين. الأدب، الفن، العلم والأفكار تأبى جميعاً وأن تكون حكرا وأن تُكتَنز او تمنع عن الخروج إلى الضوء والانتقال عبر القارات. ومحاولات عزلها او منعها او عرقلة انتقالها، محاولات وان نجحت فلأزمنة محدودة. الوحدة المعرفية والعلمية جوهرها أُممي وإنساني. والإنسان حيثما وجِد حريص على أن يقول للإنسان الآخر عما رأى وعرف لتبصيره باهمية ما يمتلك ولنفعه به. ليست هذه ظاهرة عابرة، هذه حال إنسانية دائمة بها يوسع الإنسان مجده وبها يغتني ويزداد عظمة ومعنى. فلا حواجز الطبيعة، أنهاراً أو جبالاً ومخاطر ولا اختلاف اللغات ولا ما يطرأ من أحداث أوقفت التواصل وحالت من دون أممية المعرفة والفرح المزدوج لمن امتلك ولمن تلقى.   

 هذه الطبيعة الطيبة وحّدت الشعوب وأزالت فوارقها. وهو هذا الذي أوصل الحضارات، من بابل إلى الإغريق ومن الإغريق إلى العرب ومن العرب والمسلمين إلى العالم. وهو نفسه يوصل اليوم ما في العالم لنا. وهنا وجب تفسير بعض الظواهر تفسيراً ايجابياً أو تفسيراً مضافاً لما هو معروف. أعني حين كانت بلاطات الملوك والولاة والحكام، حتى أشرسهم وأسوأهم، تستقدم العلماء، فطاحلهم وأكثرهم شهرة، لا لتأكيد مراكزهم حسب، ولكنهم عبر ذلك يأتون بالعلوم والمعارف وأيضاً يعرفون من خلال ما يروون لهم ما في العالم من أخبار. فهم زينة للبلاط وللحكم وهم مراكز علمية وأقطاب اشعاع. 

«لقد ظهر العلم الحديث في المانيا وروسيا في القرن الثامن عشر مستمَداً من العلم في فرنسا وهولندا. وكان التراسل والاتصال بين العلماء وأهل الفنون والآداب حراً حتى زمن الحرب». هو الجوهر الإنساني في حيويته والاحتفاظ المجيد بطبيعته الإنسانية والاهتمام بخير الأرض. ازداد هذا التواصل والتبادل والتعاون طيلة القرن التاسع عشر. 

ولنا أن نفرح ونمجد اليوم هذا الانتشار الواسع لمراكز البحوث والمؤسسات المعرفية وهي تفتح أبوابها لتأتي المعرفة وتخرج مسافرة وفوداً وضيوفاً أو مراسلات. 

هذه محطات تواصل إنساني ومحطات لقاء وتفاهم ومشاركة في الرأي وتبادل علوم ومعارف. 

ومع تقديرنا أن هذه المراكز تديرها دول صناعيّة كبرى لها مصالح في السوق والستراتيجيا، هي تبقى مراكز بحوث ومجمعات علمية ومعرفية، كذلك هي حواضر المجد الأدبي والإبداع الفني. لن تغير طبيعتها المصالح السياسية والاقتصادية مهما حاولت الهيمنة عليها ومهما احتاجت تلك إلى تمويلها. نعم قد تؤخرها ولكنها ستتحرر وتواصل مسيرتها في العالم. والشر إذا استفحل ووصل حد احراق الكتب وربما ناسها والمكتبات، فمسار التاريخ عموماً ظل إنساني التوجه والنفع. 

البحث عادةً يتم في الخط العام وجوهر الاتجاه والنتائج. نعم، غُيّبَ مفكرون وعلماء جهروا بالحقيقة، لكن كل الحقائق التي حورِبت ودُفِنت وصلتنا واحتفى بها العالم. وهي هذه الارادة العظيمة وهو هذا مجد العالم ومجد الإنسان. ما كانت الأرض لتكون بهذا الثراء الفكري والعلمي ولا كانت الحياة بعظمتها وامتلائها الآن، لولا ما تحقق وتوسع ووصل بقاع الأرض من علوم ومعارف. العلوم والفنون والآداب توحّد البشرية وتوحّد الشعوب ويتواصل أهل الأرض منتصرين على كل الحواجز والقيود الرسمية. 

مفرحٌ وعظيم استمرار حركة العلوم والمعارف والفنون. ومفرحٌ أكثر استمرار انتقالها في العالم وحضورها كقوة فعّالة منتجة من قوى النشاط الإنساني. الإنسانية اليوم واحدة والمعرفة وكل الفنون والأشعار، للعالم كله. وحركة الترجمة تتسع كل يوم والاتجاه لتعلم اللغات في أعظم اتساعه. هي العافية الفكرية والأخلاقية. وهي الحرية التي يصنع عشاقها من أجلها المعجزات

لتبقى.