مارك روثكو: عاطفة التعبيريَّة التجريديَّة

ثقافة 2023/01/23
...

 إحسان العسكري


بين التعبير عن المعنى العاطفي والفلسفي والواقع المادي يجتهد الفنانون التعبيريون في إنجاح سلطة العاطفة بمارثون السباق نحو نقطة التقاء الجمال بالفن، فرواد هذه المدرسة وأهمهم البروفيسور في جامعة ييل الاميركية للفنون مارك روثكو. يبحث ويعمل هو ومن معه في التأثير المباشر في العاطفة وحيثيات القبول الذوقي لدى المُشاهد، أي انهم يُخرجون تفكيرهم من الواقعية ليضعوه في تجريد تعبيري هو الأقرب للواقع التخييلي والأعمق اثراً في مجال التراتبية الانطباعية، فمن لون قوي إلى خيال غير منظم، فخطوط حادة متلاشية في ذات الوقت إلى حجم أكبر للوحة، تكون الموضوعية الفنية حاضرة، ولكنها تعزف على وتر تغييب الانغماس بالواقع عبر واقع اختاره الفنان. فلو عدنا إلى مفهوم هذه المدرسة سنجد أن أغلب المختصين بدراسة هذا المجال، عرّفوها على أنها "تعبير عن مشاعر ذاتية بدلاً من وصف شيء آخر". 

ويرى روادها ان الألوان والخطوط إذا ما استخدمت بحرية ستكون الأقرب لإبهاج البصر والأكثر نجاحاً في التأثير، هذه المدرسة التي برزت بعد الحرب العالمية الثانية وفي الولايات المتحدة تحديداً، لعب المكان دوره الأبرز فيها، إذ أن ذاك الزمن كان زمن هجرة العقول إلى أميركا، وهنا وجد روثكو متنفسه الخصب، حين انتقل من روسيا مع أسرته للعيش في الولايات المتحدة بعد الحرب العالميَّة الأولى وقيل قبلها. لروثكو فلسفته الإنسانيَّة ونظريته التشكيليَّة المتميّزة ولديه أعمال عالميَّة تسامق خلود أعمال رواد المدارس الأخرى، يقول روثكو: أنا لست مهتماً في العلاقة بين الشكل واللون. الشيء الوحيد الذي يهمني هو التعبير عن المشاعر الأساسية للإنسان: المأساة، النشوة، القدر. 

روثكو له رؤيته الفريدة في تجسيد فكرته عبر خطوط حادة تارة كما في لوحته "مدخل ميترو الانفاق وسريالية تعبيرية، كما في لوحته "دوامة بحرية" والتي تمثل الجانب الشخصي لهذا الفنان وانتقالاته المكانية من أصوله إلى مستقره. إذ يرى أنه نقل الفن التجريدي من هويته الثابتة إلى واحة تعبيرية متجاهلاً كل آراء النقاد والمشاهدات الانطباعيَّة التي أطلقت على أعماله، وتميّز بكونه عنصرا متفائلا بكينونة مغلقة، فهو يرى أنَّ التعبيريَّة التجريديَّة بناء ذوقي من التصورات الفنيَّة والذهنيَّة. ويعتقد أنَّ الذوق البسيط والنقدي معاً لم يتمكنا من سبر أغوار هذه الطبقات والكنايات الأُنطولوجية والاستعارات الذهنيَّة المرسومة. ويبدو ذلك جليَّاً في لوحته ثلاثية اللون التي رسمها عام 1951 والتي تجسّد لون الحقول الواسعة والمكانة الكبيرة لعمله فهي تتميز برفضها للموضوعية التقليدية. وحينما عُرضت تعرّض روثكو للانتقاد الشديد، فهو لم يرسم شيئاً حسب آراء معاصريه من النقاد، وإنما جمع ثلاثة ألوان هي البنفسجي والأخضر والأحمر بتشكيلة تراتبيَّة مجرّدة، ولم يدر من انتقده أن مبلغ 186 مليون دولار كان ثمن هذه اللوحة، إذ صُنّفت سادس أثمن لوحة في العالم وفق الترتيب من 1 إلى 10 في مزادات البيع. وكذلك الحال بالنسبة للوحته التي يتراوح ثمنها ما بين 10 إلى 15 مليون دولار، والمسمّاة "مكان ولادة غير موجود"، فلو عدنا للتجريديّة التعبيريّة البحتة في أعماله الأخرى لوجدناه رغم محدوديّة أفق التنوع لديه، إلا أنّه تناول القضايا الإنسانيّة والتغيرات الاجتماعيّة، وعكف على توثيق الفكر التخييلي لما بعد المعقول، وذهب بعيداً في خياله إلى اعتماد التمويه الظاهري للوحة بينما يُخفي بناءها الداخلي إيقاعات لونيَّة وهندسيَّة لا محدودة. وهذه هي المدرسة التي كان يسميها كليمنت غرينبرغ التعبيريَّة المجرّدة، على سبيل المثال لوحته "ميتتالياتك" التي أنجزها في أكثر من ثلاثين عاماً تعد من نفائس الفن التعبيري التجريدي، حيث يصفها بمفهومه أنّها خارج حدود إدراك العقل النقدي، وإن اقترب منها فسينقلها من حالتها العظمى إلى كائن جامد ميت ومستعد للتشريح. لذا عكف روثكو على تأليف كتاب خاص به تناول هو فيه قراءات وانطباعات وتحليلات المدرسة التعبيريَّة التجريديَّة. هذه المدرسة التي بُنيت على ضربات لونيَّة حادة وأخرى متلاشية وألوان محدودة على لوحات كبيرة أصبحت من أهم مدارس الفن التشكيلي المعاصر.

برؤية شخصيَّة فلسفيَّة خاصة تخرّج من مدرسة الحياة مارك روثكو تاركاً خلفه قبالة مقاعد التأمل أعظم وأهم أعمال التعبيريَّة التجريديَّة مجموعة لوحات بيعت بأكثر من 75 مليون دولاراً ومؤلَّفاً يُدرس في أعرق وأهم الجامعات العالميَّة وخلقَ نظرة جديدة للتجريد

التعبيري.